رغم الآلام والأحزان، ورغم الهموم والطغيان، ورغم غياب سلطان الإسلام نفرح بقدوم شهر رمضان، شهر الخير والبركة، ونسرّ بهلاله وأيامه ولياليه.. وعلينا أن نستغل كل ساعاته ودقائقه في طاعة الله، فهذا الشهر الفضيل هو فرصة عظيمة لاغتراف الأجر والثواب لما فيه من خيرات وبركات ورحمات وقربات إلى الله عز وجل. وهي أيام معدودات إما نغتنمها ونظفر أو نضيعها فنخسر والعياذ بالله. وقد اختص الله الصوم فيه لنفسه فعن الرسول e قال: «قال اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي به». ومن يصوم رمضان إيمانا واحتسابا يغفر له ما تقدم من ذنوبه، أي يُغفر لمن يصومه إخلاصاً لوجه الله وابتعاداً عن محرماته وتأديةً لواجباته، لما ورد عن رسول الله e «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»، ولقول الله عز وجل ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾.
فالإسلام ليس بالوراثة أو خانة في الهوية الشخصية، والعبادات ليست عادات تعودنا عليها، بل هو استشعار تلك العبادات واستشعار أجرها عند الله جل وعلا، هو اللذة التي نشعرها بطاعة الله ونحن نؤديها فنشعر بصلتنا فعلا مع الخالق. ومنها الصيام فهو ليس جوعاً وعطشاً بل يُترجم في الأقوال والأفعال والسلوك والجوارح. لكن هل نرى ذلك فعليا؟! هل سلوكياتنا تتوافق مع روحانية هذا الشهر الذي كان كثير من السلف يدعون الله تعالى ستة أشهر قبل قدومه أن يبلِّغهم إياه، فإذا انتهى دعوا الله ستة أشهر أخرى أن يتقبل منهم صيامه؟!
هل نصوم نهاره حق صيامه بالامتناع عن كل ما يغضب الله وليس فقط عن الطعام والشراب؟
هل نقوم ليله بالصالح من الأعمال من صلاة وتسبيح وتهليل وذكر لله وغيرها؟
هل نتدبر آيات القرآن أم فقط هي صفحات نقلبها ونتسابق في ختم قراءته بلا تدبر ولا تمعن؟
هل نتكافل مع الأهل والأصدقاء والجيران ونتلمس حاجة الفقير والمحتاج؟
ما نراه فعلا - إلا من رحم ربي -زيادة في إنفاق النقود على الأكل وتفنن في صنع أنواع المأكولات والمشروبات بحيث تقضي ربة البيت جل نهارها في المطبخ وكأنهم يريدون الانتقام من ساعات الصيام الطويلة بهذا الأكل والشراب، وليتهم في النهاية يأكلونه بل يذهب منه جزء لا بأس فيه إلى الحاويات!
ما نلمسه هو صرف وهدر للأوقات الطويلة والثمينة طوال الليل حتى الفجر في السهرات والخيمات والمقاهي والأسواق "الرمضانية"، وعلى الإنترنت في دردشات فارغة ومواقع سخيفة فيما لا يفيد، وفي مشاهدة التلفزيون وما يعرضه من مسلسلات وبرامج هدفها إبعاد المسلمين عن دينهم وملئها بما يلهيهم عن العبادات وذكر الله وتعبده، وتتسابق تلك الفضائيات والمؤسسات في هذا الأمر، والناس غافلون سادرون في غيهم ولهوهم، وضياع وقتهم.
إن رمضان شهر العمل والعبادة، ولكن كثيرا من المسلمين حوَّلوه إلى شهر كسل وتراخٍ بما يسهرونه من الليل وينامونه من النهار. وهناك العديد منهم يتخذ موسم رمضان حجة لترك العمل أو التهاون فيه خاصة بعض موظفي الخدمات العامة للناس فنجدهم لا يؤدون عملهم كما يجب ويتقاعسون وربما قال لك أحدهم ألا ترى أني صائم؟ناهيك عن العصبية وسوء الخلق بحجة الصيام!
ولو عدنا للفهم الحقيقي للصيام كما فهمه المسلمون الأوائل لعلمنا أن شهر رمضان هو شهر إنتاج وعمل لا شهر نوم وخمول وكسل، وأنه لا تعارض بين العبادة والصوم والتهجد لله رب العالمين، وبين العمل لتحقيق معاني الاستخلاف على هذه الأرض، فهو شهر الانتصارات الكبرى مثل بدر الكبرى 2هـ وفتح مكة 8هـ وفتح الأندلس 29هـ وفتح عمورية وعين جالوت 658هـ وغيرها من المعارك الحاسمة في تاريخ الإسلام والمسلمين.
رمضان شهر البركة والخير، الشهر الذي رغَّب الشرع المسلمين وحثهم على المسارعة إلى الخيرات في أيامه الفاضلة المباركة، ومنها تفطير الصائمين، يقول رسول الله e: «مَن فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء». وقد قال بعض السلف: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل. وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وداود الطائي ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، ومنهم من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم، منهم الحسن وابن المبارك.
فهل هذا فعلا ما يحصل عند الكثيرين؟! نعم.. هناك ولائم وموائد إفطار ولكن أي صائمين وأي ناس؟ هل هم الفقراء والمساكين وذوو الأرحام أم فقط للأغنياء وأصحاب المصالح؟ هل تكون الولائم لرضا الله تعالى ولينال أجر تفطير صائم أم للمباهاة والمفاخرة والرياء والنفاق؟!
وكذلك المساجد تمتلئ بالمصلين وتراها بعد رمضان خاوية إلا من قلة، وكأن الله سبحانه طلب صلاة الجماعة في المساجد فقط في رمضان...
ومن المناظر المؤلمة التي نشاهدها في كل سنة في رمضان ازدحام النساء في الأسواق طوال ليالي رمضان ويزيد هذا الازدحام ويصل ذروته في العشر الأواخر منه، وذلك بحجة الاستعداد لعيد الفطر وشراء الملابس والحاجات الخاصة بالاحتفال به.. عجبا لهذا التصرف.. كأننا أُمرنا بالاجتهاد في التسكع في الشوارع والأسواق في ليالي العشر من رمضان ولم نؤمر بالاجتهاد في العبادة وتحري ليلة القدر والأجر العظيم المترتب على ذلك، هذه الأيام التي قال فيها رسول الله e: «رَغِمَ أنف امرئٍ أدرك رمضان فلم يغفر له»..
أسأل الله العلي العزيز الكريم أن تمتلئ حياتنا بالطاعات والعبادات وأن نخلص النية لله الواحد القهار في كل شيء.. وأن يتقبل أعمالنا وعبادتنا وطاعاتنا.. وأن يعيده علينا بالخير واليمن والبركات وقد تحقق وعد الله سبحانه وبشرى رسوله e بدولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذة مسلمة الشامي (أم صهيب)
رأيك في الموضوع