ميز الله عز وجل هذا الشهر الفضيل شهر رمضان بميزات كثيرة عن باقي أشهر العام، ومن أبرز هذه الميزات أنه أنزل فيه القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185] فمن كرامة هذا الشهر، وفضله وسمو مكانته أنه أُنزل فيه كلام الله عز وجل؛ خالق السماوات والأرض وما بينهما... فالقرآن الكريم هو كلام الله عز وجل وكفى بذلك فضلاً وكرامة. قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ للمسلمين﴾ [النحل: 89]، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وورد عن السلف الصالح من صحابة رسول الله e في فضل القرآن قالوا: (من أراد أن يكلّم الله فليصلِّ، ومن أراد أن يكلّمه الله فليقرأ القرآن). وقالوا: (فضل كلام الله على سائر الكلام؛ كفضل الله على سائر خلقه)...
إنها ميزة سامية، وفضيلة عظيمة لأمة الإسلام؛ ميزتها عن باقي الأمم والشعوب. وذلك أن دساتير كل الشعوب والأمم على وجه الأرض، ومناهج حياتها العملية هي من نسج عقولها ومن بنات أفكارها؛ باستثناء أمة الإسلام؛ فدستورها الذي تحتكم إليه، وينظم كافة أمور حياتها هو من الله الخالق العظيم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، العلي القدير، الحكيم الخبير.
فإذا نظرنا إلى كل دساتير الأرض؛ سواء المطبق منها في بلاد الشرق أو الغرب؛ فإننا نرى النقص والعجز، والحيرة والظلم، وكثرة التقلب والتغيير في هذه الدساتير، فعلى سبيل المثال وضع أتباع المبدأ الرأسمالي دستوراً مبنياً على قوانين تنطلق من فكرة الحريات العقلية، ثم ما لبثوا - بعد بضع سنوات أن بدأوا بالتغيير والتبديل في هذا الدستور وهذه القوانين؛ كلما واجهتهم مشكلة أو أزمة مالية أو إنسانية أو أخلاقية... لدرجة أن هذا الدستور فقد طبيعته ولونه، وأصبح خارجا عن أساسه وأصله الذي وضع عليه، أو بني عليه. لكن الدستور الإسلامي الذي يستند إلى هذا الكتاب الرباني لم يعتره أي نقص، أو تغيير أو تبديل؛ منذ أنزله الله عز وجل على رسوله e، قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام. أضف إلى ذلك أن هذا الدستور شامل وكامل، غير ناقص في أي جزئية من شئون حياة الإنسان، ويحقق العدل والاستقامة بين الناس، ويجلب الراحة والطمأنينة لبني البشر... قال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9]، وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ [الكهف: 2]، وقال: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر: 27-28].
لقد طُبق هذا القرآن في أرض الواقع سنوات طويلة، وكانت أمة الإسلام خلال هذه السنوات مميزة عن كل الشعوب في قوتها ورفعتها وانتظام أمورها، ورقي عيشها، وفي تقدمها العلمي في كل المجالات. وكانت أيضا الأمة الأولى في قوتها وتأثيرها الدولي. ثم ما لبثت أن انتكست بعد غياب هذا القرآن من حياتها؛ فأصبحت في ذيل الشعوب والأمم، وتأخرت عن ركب البشرية سنوات إلى الوراء؛ في العلوم والمخترعات، وصارت لا وزن لها بين الشعوب والأمم. والأنكى من هذا وذاك أنها صارت تبعا لغيرها، وتغزوها دول الأرض، وتستعمر بلادها وتنهب ثرواتها، وتتحكم في كل شئونها، وأصبحت شعوبها تهيم على وجهها في الأرض؛ طلبا للقمة العيش. والخيرات تحت أقدامها وبين أيديها!! لكن السؤال المهم هنا هو: ما هو واجب أمة الإسلام اليوم تجاه هذا القرآن؟ هل يكفي من المسلمين قراءة هذا المصحف بضع مرات في شهر رمضان؟ هل يكفي منهم طباعة ملايين النسخ وتوزيعها على شعوب الأرض في كل عام كما يفعل بعض حكام المسلمين؟ هل يكفي من حكام المسلمين - على وجه الخصوص - عقد مسابقات حفظ القرآن وتكريم حفظة القرآن في كل عام؟...
إن الغريب أن حكام المسلمين، ومعظم أبناء المسلمين لا يدركون واجبهم تجاه القرآن، أو يحرّفون الكلم عن مواضعه عن قصد وإصرار تجاه هذا الواجب العظيم. ففي رمضان من كل عام تعقد مسابقات لحفظ القرآن، وترتيله وتجويده من قبل حكام المسلمين في معظم البلاد، وينفق على هذه المسابقات ملايين الدولارات. ولكن في المقابل نرى هؤلاء الحكام يحاربون أحكام هذا القرآن، ويحاربون من يدعو إلى تطبيقها في أرض الواقع. ويضعون الآلاف من العلماء ممن ينادون بتطبيق القرآن داخل السجون. والأغرب من ذلك أن بعضا منهم كان يكرم حفظة القرآن في كل عام، وفي الوقت نفسه ينكر السنة النبوية والآيات التي تشير إلى ذلك كما كان يفعل حاكم ليبيا السابق!! فما معنى أن نكرم حفظة القرآن - على سبيل المثال - في دويلة مثل دبي، ودور البغاء تنتشر على مقربة من مراكز تكريم القرآن ومسابقاته؟! وما معنى أن يقوم حاكم دبي، أو غيره من حكام المسلمين بتكريم حفظة القرآن بنفسه وهو يوالي أعداء الله ويطبق قوانين الكفر بدل قوانين القرآن الكريم؟! وما معنى أن يكرم حكام آل سعود حفظة القرآن، ويطبعون ملايين النسخ من المصحف الشريف وفي الوقت نفسه يوالون أمريكا الصليبية، ويعلنون الحرب على الإسلام ودعاة الإسلام؛ تحت ذريعة مزورة كاذبة اسمها (الحرب على الإرهاب)، ويعترفون بشرعية كيان يهود في أرض الإسراء والمعراج؟!...
إن واجب أمة الإسلام اليوم هو وضع هذا القرآن الكريم موضع التطبيق؛ بأن يكون دستور الأمة الإسلامية في حياتها. عند ذلك نعرف للقرآن فضله ومكانته، ونتميز عن كل الشعوب والأمم، ونعود كما كنا، وكما أراد لنا ربنا عز وجل ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، ونحمل أمانة القرآن كما كنا نحملها من قبل إلى الشعوب والأمم. وتدين لنا كل شعوب الأرض، ونصبح الدولة الأولى في العالم. فنسأله تعالى ونحن في هذا الشهر الفضيل أن يكرم أمة الإسلام بخلافة الإسلام؛ التي تطبق أحكام القرآن، وتعرف مكانته وكرامته ومنزلته العالية السامية - آمين يا رب العالمين - والحمد لله رب العالمين.
رأيك في الموضوع