شهدت منطقة المغرب الإسلامي أول احتكاك بين المستعمر الجديد الأمريكي والمستعمر القديم الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية وخروج أمريكا من عزلتها، وتمكنت أمريكا من اقتطاع المغرب والجزائر من الاستعمار البريطاني تحديدا مطلع الستينات من القرن الماضي، ولم يدم الأمر طويلا حتى استعادت بريطانيا نفوذها في البلدين. ثم حاولت أمريكا النفاذ عبر الانقلابات التي شهدها المغرب وفشلت، ثم أوجدت ووظفت قضية الصحراء للاختراق، واستغلت كذلك الحراك الشعبي الأخير في الجزائر عبر توظيف بعض الحركات، حتى كانت انتفاضة الربيع العربي عام 2011م وتداعياتها على الاستعمار البريطاني في ليبيا ووصول الاستعمار الأمريكي من جديد إلى غرب البلاد الإسلامية، ومعه تعاظمت أطماع أمريكا الاستعمارية وباتت رؤيتها الاستراتيجية هي كنس الاستعمار الأوروبي وتصفية تركته.
ولقد تناسلت الاتفاقيات الأمنية والعسكرية والمناورات العسكرية الميدانية مع كل من المغرب وتونس في السنوات الأخيرة، واتخذت أمريكا من قيادتها الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" أداتها العسكرية الاستعمارية وذراعها الضاربة في النفاذ لمنطقة المغرب الإسلامي.
واليوم أتى الدور على الجزائر فهي في عين العاصفة الاستعمارية الأمريكية، نظرا للمستجدات التي طرأت خلال السنوات الأخيرة على الساحتين الاستعمارية والدولية، ومعها برزت الأهمية الجيوستراتيجية للجزائر بالنسبة لأمريكا.
على مستوى الساحة الاستعمارية فقد نفذت أمريكا إلى ليبيا وباتت تطرق أبواب الجزائر من الجهة الشرقية (الشريط الرابط بين الجزائر وليبيا يمتد لقرابة 1000 كلم)، والأخطر هي الجهة الجنوبية للجزائر منطقة الساحل (مالي، النيجر) التي حل بها المستعمر الأمريكي بعدما كنس الاستعمار الفرنسي وهنا التهديد الجدي للجزائر (حقول النفط في الجنوب وورقة الإرهاب التي تتقن أمريكا استغلالها وتوظيفها)، الأمر الذي يجعل الجزائر في عين العاصفة الاستعمارية الأمريكية.
أما على مستوى الساحة الدولية وأزمة الطاقة التي فجرتها الحرب الروسية الأوكرانية بالنسبة لأوروبا، ومعها تحولت أنظار أوروبا للجزائر كمورد رئيسي بديل للطاقة عن روسيا. وكون الطاقة هي سلاح أمريكا الاستراتيجي والذي تمسكه بقوة، فقد تنامى اهتمامها بالجزائر ومخزونها الهائل من الطاقة لقطع الطريق على أوروبا، ففي 23 أيار/مايو الماضي وقّعت شركة سوناطراك بالجزائر اتفاقية مبدئية مع الشركة الأمريكية للنفط والغاز إكسون موبيل، ووقّعت الوكالة الجزائرية لتثمين موارد المحروقات "النفط"، وشركة "شيفرون" الأمريكية في شهر كانون الثاني/يناير الماضي اتفاقية لإنجاز دراسة حول "إمكانات موارد المحروقات في المناطق البحرية الجزائرية"، وتمتد الاتفاقية على مدى سنتين من الشراكة في هذا المجال، ووقّعت سوناطراك كذلك اتفاقية مبادئ مع شريكتها الأمريكية أوكسيدنتال بتروليوم كوربوريشن (أوكسي) في مجالي استكشاف واستغلال المحروقات في تشرين الأول/أكتوبر 2024، وتوالت الاتفاقيات الأمريكية الجزائرية في مجال الطاقة وتنامت.
فأمريكا تسعى للتحكم في قطاع الطاقة في الجزائر لإحكام قبضتها على أوروبا الفقيرة طاقياً، وقطع الطريق على روسيا والصين.
ثم هناك جنوب الصحراء ومنطقة الساحل جنوب الجزائر وشريطها الممتد مع مالي والنيجر بنحو 1700 كلم، المنطقة التي باتت مرتكزا للاستعمار الأمريكي في غرب أفريقيا بعدما كنس منها الاستعمار الفرنسي، واليوم تسعى أمريكا لإدارتها بأقل التكاليف الاستعمارية لتحقيق عائد استعماري خالص، وعين أمريكا على الجزائر كبوابة للساحل لحراسة المستعمرات الأمريكية الجديدة، عبر تحريك (محاربة الإرهاب) وذراع النظام بالجزائر داخل الطوارق، كما وظفت أمريكا النظام بالمغرب في هذه الحراسة بحكم علاقاته مع دوائر النفوذ في تلك البلاد (الزوايا، العساكر، الساسة، ثم الحركة الاقتصادية التي نشطت مؤخرا).
فالرؤية الاستراتيجية الاستعمارية الأمريكية للجزائر هي ما يفسر هذا التحول الأخير وتسارع الاتفاقات بين أمريكا ونظام تبون بالجزائر، ترجمها الاتفاق الأخير الذي وقعه قائد "أفريكوم" الجنرال مايكل لايغلي في 22 كانون الثاني/يناير 2025 عقب لقائه مع الرئيس تبون وقائد أركان الجيش الجزائري الفريق أول السعيد شنقريحة. ثم ما أعلنه مؤخرا سفير الجزائر لدى واشنطن بقوله "سقفنا في التعاون مع أمريكا هو في السماء"، ثم المحادثات الأخيرة التي جرت بين وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو ونظيره بالجزائر أحمد عطاف "لتعزيز الشراكة المتينة بين البلدين".
أما نظرة النظام الجزائري للعلاقة مع أمريكا فهي جزء من رؤية بريطانيا صاحبة النفوذ الاستعماري في الجزائر حاليا، وهي جزء من الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية في تأمين بعض مصالح أمريكا للحفاظ على نفوذها في مستعمراتها، ولرد وصد حملة الاستعمار الأمريكي على مجال نفوذها، ونظام تبون بعد أن لفه وخنقه الاستعمار الأمريكي من جهة الشرق والجنوب، يقوم بالوظيفة الاستعمارية اليوم كنظيره المغربي، في تأمين مصالح أمريكا مع ربط مصالح الرأسمالية الأمريكية بالنظام الجزائري، ما يستدعي أمريكياً تأمين استقرار الحكم في الجزائر وبالتالي تأمين النفوذ الاستعماري البريطاني فيها.
لكن أمريكا ترى أن زمن الاستعمار الأوروبي قد انتهى وأنه استنفد نهبه وهي عازمة على كنسه، فعين أمريكا على نفط وغاز ليبيا والجزائر وتونس، وفوسفات وذهب وفضة ونحاس وكوبالت المغرب، والمناجم النادرة بالساحل الصحراوي، وذهب ويورانيوم مالي، وحديد موريتانيا، ونفط نيجيريا، و...، وكل موارد غرب البلاد الإسلامية والجوار، وهو ما يرشح الأوضاع الاستعمارية بالمنطقة لمزيد من التطاحن والتكالب والتوحش، ثمنه يدفع من دماء المسلمين وثرواتهم، وطرابلس الغرب شاهد ماثل للعيان.
هو الثقب الأسود الجيوستراتيجي الذي خلفه غياب الخلافة، ومعه تحولت بلاد المسلمين إلى ساحة افتراس لوحوش الاستعمار الغربي. وهذه المأساة لن تزول إلا باجتثاث الجرثومة التي أفرزتها، منظومة الاستعمار الغربية وأنظمتها الوظيفية الخائنة. ولا خلاص إلا بالإسلام وخلافته الراشدة على منهاج النبوة.