انعقدت قمّة دول عدم الانحياز في 19 و20 كانون الثاني/يناير الحالي 2024 في العاصمة الأوغندية كمبالا، وهذه القمة هي القمّة رقم 19 للحركة تحت شعار (تعزيز التعاون من أجل رخاء عالمي مشترك)، وتترأسها أوغندا التي تسلمّت الرئاسة الدورية للحركة، وشارك فيها 93 دولة من أصل 120 دولة مُنضوية فيها.
فرضت القضية الفلسطينية نفسها على أعمال اجتماعات حركة عدم الانحياز بوصفها القضية الأكثر أهميةً على المستوى السياسي من سائر القضايا الأخرى في هذه الأيام، لا سيما قضايا القارة الأفريقية المعروفة مواقف الدول منها، وطالبت المجموعة العربية المؤتمر باتخاذ موقف نظري شكلي موحد بخصوص حرب غزة، فيما تصدّرت دولة جنوب أفريقيا مسألة الدفاع عن فلسطين بشكلٍ عملي واضح، باعتبار أنّ القضية الفلسطينية بالنسبة لها هي قضيتها، وقدّمت وزيرة خارجيتها ناليدي باندور بياناً شرحت فيه خلفية الدعوى التي أحالتها لمحكمة العدل الدولية، والتي طلبت فيها قراراً استثنائيا يُجبر كيان يهود على الوقف الفوري لإطلاق النار.
وبدعم من جارتها الأفريقية دولة ناميبيا، خاضت جنوب أفريقيا خلف الأبواب المُغلقة جولة من النقاشات السياسية والقانونية لمحاولة تضمين مصطلح (الإبادة الجماعية) ضمن الإعلان السياسي الخاص بفلسطين في هذه القمّة، لكنّ الذي عرقل جهود جنوب أفريقيا هذا كان موقف الهند وسنغافورة، فبسببهما لم يحصل تحقيق توافق بين الأعضاء، وكانت الحجة لديهما أنّ الأمر بات في عهدة محكمة العدل الدولية، والتي كما قيل يقع في صلب اختصاصها تحديد التعريف القانوني لما تقوم به (إسرائيل)، وأنّ هذا ليس من اختصاص حركة عدم الانحياز.
ولم تُخفِ الهند - وهي إحدى الدول الرئيسية المؤسسة لحركة عدم الانحياز - لم تُخفِ انحيازها السافر لكيان يهود في الحرب على غزة، فقال وزير خارجيتها إس. جايشانكار إنّ "الإرهاب واحتجاز الرهائن أمر غير مقبول"، فوصف عمل حماس بالإرهاب، ولم يصف حرب الإبادة التي تشنّها دولة يهود على غزة بالوصف ذاته.
ولطالما كانت الهند تاريخيا ومنذ عهد أول رئيس هندي وهو جواهر لال نهرو مرورا بأنديرا غاندي، طالما كانت تُساند القضية الفلسطينية بقوة، لكن مع وصول حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي الطائفي للحكم بدأت تميل مواقف الهند سياسياً إلى جانب كيان يهود، وتنحاز له، وتتعلم منه أساليب التطهير العرقي لتطبيقها في كشمير المُحتلّة.
وأمّا أوغندا الدولة المُضيفة فموقفها بشكل عام مؤيد بشدة لكيان يهود، ففي محكمة العدل الدولية كانت القاضية الأوغندية مُتطرفة أكثر من القاضي التابع لدولة يهود، فلقد تم اعتماد 4 من التدابير القضائية المُطالبة كيان يهود بالامتثال لوقف الانتهاكات في غزة بموافقة 15 من القضاة الـ17، وعارضها القاضي (الإسرائيلي) والقاضية الأوغندية.
ولقد انفردت القاضية الأوغندية سيبوتيندي بمعارضة اثنين من التدابير رغم موافقة بقية أعضاء اللجنة بمن فيهم العضو (الإسرائيلي)، وهما إجراءان يتعلقان بمطالبة (إسرائيل) بالعمل فورا على ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ومنع التحريض المباشر على إبادة الفلسطينيين في القطاع ومعاقبة المحرضين، فكانت مواقف القاضية الأوغندية في محكمة العدل الدولية الناظرة في الانتهاكات (الإسرائيلية) أكثر تطرفاً من مواقف القاضي (الإسرائيلي) نفسه.
إنّ حركة (دول عدم الانحياز) كما الجامعة العربية هي حركة فاشلة لا وزن لها، وقد فشلت في مؤتمرها الأخير هذا في الخروج بقرار يدعو إلى مُجرد إدانة كلامية لكيان يهود، وما خرج من بيان ختامي لا يزيد عن معانٍ فضفاضة تتعلق بالتضامن والتأييد الكلامي العام غير المُباشر للفلسطينيين، فقال ممثل أوغندا الدائم في الأمم المتحدة السفير أدونيا أيباري إنّ "الإعلان السياسي حول فلسطين يتضمن تأكيداً على دعم الشعب الفلسطيني، والدعوة لوقف إطلاق النار".
وبالرغم من هُزال حركة عدم الانحياز إلا أنّه ثبت في هذا المؤتمر أنّ موقفي جنوب أفريقيا وناميبيا هما أفضل من مواقف جميع الدول العربية التي اعتادت على أن تكون مواقفها مواقف كلامية لا قيمة لها، أمّا جنوب أفريقيا فهي على الأقل تُحاول أن تفعل شيئا عملياً وإن كان لا يؤثّر تأثيراً حقيقيا، ولكنّها تتلبس قدر الإمكان بالقيام بأعمال جادة من خلال محكمة العدل الدولية بحسب قدرتها وإمكانياتها، وقد التحقت بها ناميبيا بشكلٍ عملي وشاركتها في أعمالها القضائية، فقدّمت ناميبيا مرافعة ذكرت فيها أن فلسطين هي دولة عضو في الحركة، ويتعرض شعبها لتطهير عرقي، وتُدمر (إسرائيل) البيئة الاجتماعية للفلسطينيين، وتُمارس بحقهم سياسة التهجير القسري، وبالتالي تندرج الحرب (الإسرائيلية) من وجهة نظر القانون تحت بند الإبادة الجماعية، هذا ما قالته وفعلته ناميبيا وهي دولة أفريقية ضعيفة، بينما الدول العربية لم تُشارك جنوب أفريقيا في مواقفها العملية هذه إلا من خلال الثرثرة الإعلامية!
وعلى النقيض من جنوب أفريقيا وناميبيا برزت في هذا المؤتمر دولة الهند كعدوة للمسلمين في كل مكان، وليس في الهند وكشمير فقط، ومعلوم أنّ الهند دولة عضو مؤسس لحركة عدم الانحياز، إذ انقلب موقفها رأساً على عقب، فانحازت إلى كيان يهود بكل سفور، وتبعتها سنغافورة مع عداء أقل.
هذا بالإضافة إلى الدولة المُضيفة للمؤتمر وهي أوغندا التي أظهرت عداءً صريحاً للقضية الفلسطينية، وادّعت أنّ المسألة الفلسطينية لا تُبحث في هكذا مؤتمرات، فقال مُمثّلها في المؤتمر: "إنّ الحركة هي تجمع سياسي وليس قانونيا" وهو ما أحبط طرح وصف إبادة جماعية على أحداث غزة التي كان يُتوقع أنْ يخرج به المؤتمر ولو من ناحية نظرية.
إنّ غالبية دول عدم الانحياز هي في الواقع دول مُنحازة، ولا يؤمل منها أي خير، فضلاً عن كونها دولاً تابعة لا تخدم بمواقفها إلا الكافر المُستعمر، وإنّ الحركة مُنذ تأسيسها قبل ما يُقارب السبعين عاماً لم يظهر عليها إلا الانحياز للدول الكبرى، فليس فيها من اسمها إلا نقيضه، وقد استخدمتها أمريكا وبريطانيا في السابق لمواجهة الاتحاد السوفياتي تحت شعار الحياد الإيجابي، وكذلك استخدمت من قبل في تلميع بعض الزعماء الدكتاتوريين الفاشلين كعبد الناصر وتيتو، واستخدمت أيضاً في إيقاع الدسائس بين الدول، ويغلب على مؤتمراتها الضجيج الإعلامي الغوغائي ليس غير.