إن المسلمين صدقوا ببشارات رسولهم الكريم e ولم يتطرق الشك إلى قلوبهم كما صدقوه فيما أمر ونهى في الشرع، لأنه نبي لا يكذب، فذلك يستحيل عقلا أن يتقول على الله، وما هو بكاهن، ﴿وَمَا يَنطِقُعَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، فعلم من ربه عالم الغيب ما أظهره عليه من البشارات. فاعتبروا البشارات طلبا، لأن الخبر طلب يقتضي العمل. ولهذا أدركوا أن البشارات لا تتحقق إلا بعمل بشري، فلا تتنزل الملائكة تقاتل عنهم وهم قاعدون ينتظرون أن تحقق لهم النصر، بل بالقيام بالعمل الجاد والإعداد التام متوكلين على الله باذلين أموالهم وأنفسهم في سبيله، فعندئذ تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا والآخرة، أوحى إلينا ربكم أن نثبتكم، فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان...
فعندما سمعوا قول رسولهم الكريم e: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»، فكل واحد منهم من أصحاب الهمم العالية انطلق يعمل بجد واجتهاد لينال شرف الفتح متمنيا أن يكون هو ذلك الأمير أو أن يكون جنديا في ذلك الجيش.
ولهذا أرسل الخليفة معاوية جيشا إلى القسطنطينية بإمارة ابنه يزيد متمنيا أن يكون ذلك الأمير الفاتح، وانطلق معه الصحابة الكرام متمنين أن يكونوا جنود جيش الفتح. وكل خليفة من خلفاء بني أمية العظام أرسل فلذة كبده على رأس الجيش لفتح العاصمة الشرقية لأعظم إمبراطورية لينال هذا الشرف. وعندما تأكد مسلمة ابن الخليفة عبد الملك من صحة الحديث انطلق يغزوها،... وهكذا حاصروها عشرات السنين وفتحوا أطرافها، فمنهم من قضى نحبه، ومعالمهم شاهدة عليهم هناك وأبرزها قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري.
وبالمناسبة فإني شخصيا قبل أربعين عاما عندما كنت أتكلم مع الناس أذكرهم بأمجادهم وفرضية العمل لإحياء خلافتهم، فذات مرة قام شخص وقال سأدلك على مسجد لا أحد يفطن له. فذهب بي إلى مسجد في منطقة قراكوي بإسطنبول فلما دخلته، دخلت السكينة قلبي، فهو مسجد متواضع يختلف عن كل المساجد المزخرفة ذات القبب والمنارات، كتب فوق بابه بالعربية "مسجد العرب الشريف، بناه مسلمة بن عبد الملك عام 77هـ".
وهكذا كانت همم المسلمين، وكل همهم أن يفتحوا القسطنطينية لينالوا شرف تحقيق هذه البشارة والبشارة الثانية فتح روما، فعندما سئل رسولهم الكريم e: "أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ" فأجابهم «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ». ولهذا فكروا في فتحها من الغرب عندما لم يتمكنوا من فتحها من الشرق ليطبقوا عليها من الجهتين، ففتحوا إسبانيا ووصلوا إلى مشارف باريس وفتحوا صقلية بإيطاليا وقد اقتربوا من روما حتى يحققوا بشارات رسولهم الكريم الذي لا ينطق عن الهوى.
وكان خلفاء بني العباس يناوشون الروم وقد أخضعوا ملوكهم وأرغموهم على دفع الجزية، حتى إذا تمرد أحدهم فكتب له الخليفة على ظهر رسالته التي يرفض فيها دفع الجزية: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه. ثم ركب من يومه وأسرع حتى نزل على مدينة هرقلة وأوطأ الروم ذلا وبلاء، فقتل وسبى، وذل نقفور وطلب الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك". ومن ثم أقطع الخلفاء العباسيون الترك المسلمين الأجزاء المفتوحة من الأناضول ليرابطوا فيها ويقاتلوا الروم حتى يفتحوا القسطنطينية، فكان أول أمير لهم سلجوق بيك عام 1040م، فأخضع أجزاء كثيرة في الأناضول لحكم الخلافة، ومن ثم واصل أمراء السلاجقة جهادهم فيها حتى برز العثمانيون، فواصل أمراؤهم الجهاد حتى أحاطوا بالقسطنطينية فنالوا شرف الفتح بقيادة محمد الفاتح عام 1453م في ظل الخلافة العباسية. فقام وحول كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، فجن جنون الغرب حتى قام بابا الفاتيكان يولول ويتوعد، فأرسل إليه الفاتح مهددا: "لقد شرفت آيا صوفيا بإبقائها معبدا فإذا لم تسكت فإنني سأدخل روما وأحول الفاتيكان اصطبلا لخيولي" فخاف البابا وسكت. ولكن الفاتح لم يسكت ولم يتوقف، فقال هذا العام عام الحج والعام القادم إن شاء الله عام فتح روما، ولكن المنية وافته وهو ذاهب إلى الحج ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وليقيض فتحها على يد رجل آخر مهما طال الزمن، فبشارة الرسول e بفتح القسطنطينية تحققت بعد نحو 850 سنة، ولم يمل المسلمون ولم يقنطوا ولم يشكّوا في بشارة نبيهم.
وها هم الآن أهل الهمم العالية منهم لم يفتروا ولم يقنطوا وهم على يقين أن سائر البشارات ستتحقق، ومنها البشارة العظمى بقول نبيهم «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، فقاموا لها، وبرز منهم تقي الدين النبهاني رحمه الله، فقام يعمل بجد واجتهاد متمنيا أن يكون الخليفة الأول فيها، فأسس حزبا عظيما شامخا عالميا بفكر عميق وبنظرة ثاقبة وبوعي تام بفضل من الله ورحمة، وكل شاب دخل حزبه جد واجتهد متمنيا أن يتشرف بالعمل لها وأن تكتحل عيناه برؤيتها ومتمنيا أن تتحقق البشارة على يده، فثبت الثابتون منهم فلم ينكثوا ولم ينقضوا غزلهم ولم ينكصوا على عقبيهم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، فهم عاملون ذاكرون يصلون ليلهم بنهارهم في جد واجتهاد، كلهم ثقة بوعد الله سبحانه وببشارة رسوله e واضعين يدهم في يد أميرهم الثالث عطاء الخير آملين أن يحقق الله على يديه وأيديهم تلك البشارة، وقد تحقق في إمارته الكثير من توسع العمل وتعمقه وتنوعه وانتشاره والكسب الجديد والبناء القوي والزيادة في دقة الفهم والوعي والثقة بالنفس. فالثابتون في كل إمارة يبنون على الأولى ولا يهدمون، ويزيدون عليها ولا ينقصون، ويكملون المسار ويسعون إلى الكمال، وكل منهم مفعم بالأمل والثقة والنشاط لتحقيق البشارات القادمات. فهم أحفاد أولئك العظام، ولدوا من رحم هذه الأمة العظيمة، وكل يوم يزيد تجاوب أمتهم معهم، فالدنيا وقوى الكفر كلها في أعينهم صغيرة، فهم رجال كرام عظام أهل عزم وعزيمة، وينطبق عليهم قول الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
والله أعلم حيث يجعل رسالته وأعلم على يد من يحقق بشارات رسوله، فليتنافس المتنافسون.
رأيك في الموضوع