ثمة من يداوم التركيز على أن الثورة خرجت ضد طاغية الشام لاستبداله باعتباره سبب الظلم وشقاء الحال؛ وذلك لصرف النظر عن حقيقة المشكلة المتمثلة في الأنظمة والقوانين الوضعية الرأسمالية التي فصلت الإسلام عن الحياة، والتي هي السبب الحقيقي في ضنك العيش وشقاء الحال وليس فقط شخص الطاغية، هذه حقيقة يؤكدها القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.
فكان لا بد من الثورة على هذا الواقع الفاسد وتغييره ورفع الظلم بكافة أشكاله؛ وهذا لا يتأتى في تغيّر الأشخاص فقط، فحتى نتجنب التغيير في القشور وحتى لا يبقى الواقع على ما هو عليه فننتقل من ظالم إلى ظالم ومن عميل إلى عميل؛ لا بد من الثورة على مجموعة المفاهيم والأنظمة والقوانين التي أنتجت الظلم وسمحت للظالم باستعباد الناس وعبّدت له الطريق بل وحافظت على وجوده وبقائه في سدة الحكم؛ بعد أن أحاطته بمجموعة كبيرة من الأنظمة والقوانين.
نعم لا بد من إزالة هذه الأنظمة والقوانين الوضعية؛ ووضع النظام الذي أنزله الله عز وجل موضع التطبيق، فهو النظام الوحيد الذي يصلح للبشرية جمعاء، وهو النظام الوحيد القادر على أن يؤمن للناس حياة سعيدة كريمة، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
والمتتبع لسلوك قيادات الفصائل في مناطق نفوذها؛ يجد أن الواقع لم يتغير بعد الثورة بل ربما ازداد سوءًا، وهم الذين من المفترض أنهم ثاروا على الظلم والظالمين، ولكنهم عندما وصلوا إلى شكل من أشكال السيطرة والنفوذ؛ تجدهم مارسوا الظلم الذي ثاروا عليه وظهر الفساد عليهم بشكل واضح، وما ذلك إلا لأنهم حملوا الأفكار نفسها التي كانت سببا في الظلم؛ وتخرجوا من مدارسها ذاتها، وبهذا يتضح أنه لا بد من الثورة ليس فقط على شخص الحاكم وإنما على مجموعة المفاهيم والأنظمة والقوانين السائدة؛ حتى يتسنى لنا الكلام عن ثورة ناجحة وتضحيات وضعت في مكانها وإلا بقي الحال كما هو وذهبت التضحيات أدراج الرياح.
ثمة متطلبات لا بد من توفرها حتى تصل الثورة إلى هدفها المنشود في تغيير الواقع الفاسد؛ من أهمها، وجود نظام بديل عن النظام الحاكم حتى تؤتي الثورة أكلها، وإلا بقي الواقع في جوهره كما هو مع تغيير في الأشخاص والأشكال فقط، فالثورة في حقيقتها هي فكرة سياسية شاملة لجميع نواحي الحياة؛ يراد إيجادها في المجتمع كبديل عن الأفكار السائدة التي انبثقت عنها القوانين والأنظمة، والتي بدورها أدت إلى الظلم بكافة أشكاله وإلى ضنك العيش وشقاء الحال الذي كان الدافع الأساس للثورة، وبناء عليه كان لا بد من الثورة على مجموعة المفاهيم والقوانين والأنظمة الفاسدة واستبدال مفاهيم صحيحة مستندة إلى عقيدة الإسلام بها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم﴾.
وبالإضافة إلى النظام البديل الذي يعبَّر عنه "بالمشروع السياسي" لا بد من قيادة سياسية واحدة للثورة؛ قيادة واعية ومخلصة تكون بمثابة الرأس للجسد، فتعدد الرؤوس يمزق الجسد ويهدر طاقاته بل ويجعله يخوض صراعا مع الذات، وهذا ما حصل في اقتتال الفصائل وغيرها من الأعمال التي كانت متناقضة ومختلفة بسبب تعدد الرؤوس وتناقضها واختلافها، ولم يكن هذا التعدد عفوياً بل كان متعمداً، وهذا واضح من سلوك الدول الداعمة؛ التي كانت حريصة على عدم إيجاد رأس واحد للفصائل؛ لتبقيها متبعثرة يسهل القضاء عليها، بل وضرب بعضها ببعض، وإن غياب القيادة السياسية الواعية والمخلصة سهّل على أعداء الثورة تقسيمها إلى مناطق عن طريق الهدن والاتفاقيات التي من أخطرها اتفاق خفض التصعيد؛ هذا الاتفاق الذي جمد الجبهات مما جعل طاغية الشام يستفرد بالمنطقة تلو الأخرى حتى استطاع إحكام سيطرته على العديد من المناطق ومنها الغوطة حيث أمن بالسيطرة عليها محيط العاصمة ثم ها هو الآن ينتقل إلى المنطقة الجنوبية في درعا وريفها ليعيد السيناريو ذاته.
كما أنه لا بد من توحد الفصائل التي تشكل في مجموعها قوة لا يستهان بها؛ لا بد من توحدها حول المشروع السياسي البديل المنبثق عن عقيدة المسلمين، وبذلك تتضح الرؤية المستقبلية لشكل الدولة وأجهزتها وصلاحيات كل جهاز والأنظمة والقوانين الأساسية التي سوف تسير عليها فيرتفع الخلاف وتتوحد الرؤية، وأيضا لا بد من تبني الحاضنة الشعبية لهذا المشروع بعد أن تدرك أن لا خلاص لها إلا بحكم الله؛ ولا نصر إلا بالعمل على تطبيق شرعه كنظام بديل عن الأنظمة الوضعية...
وعندما تتوفر هذه العناصر والأدوات اللازمة والتي هي، المشروع السياسي المنبثق عن العقيدة الإسلامية، والقيادة السياسية الواعية والمخلصة التي يتجسد المشروع فيها، والقوة التي تتبنى هذا المشروع وتحمل على عاتقها نصرته، والحاضنة الشعبية التي تتبنى أيضا هذا المشروع وتطالب بتطبيقه بعد إسقاط النظام، حينها نستطيع أن نقول إن الثورة تسير في طريقها الصحيح وستصل إلى هدفها المنشود، وتكون تضحياتها في مكانها. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: الأستاذ أحمد عبد الوهاب
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع