ما زال التاريخ يسطّر بمداد من ذهب السيرة العطرة لأولئك الرجال الأبطال الذين خاضوا معركة الكرامة من أبناء الجيش الأردني والفدائيين وسكان منطقة الكرامة وما حولها، أولئك الصناديد الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
إننا نستذكر - في هذه الأيام التي سُوّدت صفحاتها بالخيانات والتآمر على أمة الإسلام، وتكالب دول الكفر وجيوشها على المسلمين ينهشون لحومهم وينهبون ثرواتهم... - نستذكر أياماً بيضاء، سطّر صفحاتها رجال أبطال من أبناء المسلمين، فبقيت تلك الصفحات مضيئة مشرقة... وستبقى عنواناً ورمزاً لتضحيات أذاقت كيان يهود مرارة الهزيمة إذ لم يكن يتوقع ذلك، فقد خرج من حرب حزيران 1967 مزهوّاً بنصره على جيوش عربية عديدة.. وإذا به يولّي الأدبار أمام فئة قليلة مخلصة من الضباط والجنود والفدائيين والمدنيين.
لقد وقعت معركة الكرامة في الحادي والعشرين من آذار/مارس عام 1968، بعدما أحكم جيش كيان يهود خطته، ليزجّ بعدها بجحافل من جيشه، الذي كان يظنّ أنه لا يُقهر، مدجّجين بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، الأرضية منها والجوية، وإذا به يفقد عنصر المفاجأة.. فالأبطال شرقي النهر يتربصون به، ويرصدون تحركاته في الأيام الأخيرة التي سبقت ذلك اليوم. فما أن نصب جسوره على نهر الأردن، ودخل الفوج الأول حتى قامت المدفعية بدك تلك الجسور، فقطعت حبل الإمداد، وانفرد الأبطال شرقي النهر بتلك الشرذمة من يهود فأذاقوهم الموت الزؤام، ففقدوا بذلك زمام المبادرة، والأمر نفسه تكرر على جميع المحاور التي حاولت فيها قوات يهود اجتياز النهر... وأخذ قادة جيش يهود يتخبطون، فلم يسعفهم الطيران، ولا المظليون الذين قاموا بإنزالهم على أرض الكرامة وغيرها من المناطق المستهدفة، فكلها لاقت المصير نفسه، ذلك أن المعركة حقيقية.. وحينها رأى جنود يهود ما لم يروه من قبل.. رأوا رجالا يحبون الموت أكثر من حبهم هم للحياة، رأوا الجرأة والإقدام من أولئك الأشاوس، ورأوا التماسك والتعاضد بين مختلف فئات المقاتلين شرقي النهر... ولأول مرة في تاريخ كيان يهود يطلب وقف إطلاق النار، وأنى له ذلك، وقد أحاط الأبطال المسلمون بقواته إحاطة السّوار بالمعصم؟ فما كان منه إلا أن حاول النكوص على عقبيه، مولّيا دبره، هارباً فزعاً... فوقع في شرّ أكبر من الشرّ الذي أصابه أولاً، فلم يتمكن من الانسحاب المنظّم، فبدأ في انسحاب فوضويّ خسر فيه من آلياته ومدرعاته وجنوده أكثر مما خسر في معركته التي اقترفتها يداه الآثمتان... وخلّف وراءه كثيراً من آلياته ومدرعاته وأسلحته، بل خلّف أشلاء جنوده في أرض المعركة..
لقد وصف قائد مجموعة القتال لكيان يهود المقدم أهارون بيلد المعركة فيما بعد لجريدة دافار العبرية بقوله: لقد شاهدت قصفاً شديداً عدة مرات في حياتي لكنني لم أر شيئاً كهذا من قبل، لقد أصيبت معظم دباباتي في العملية ما عدا اثنتين فقط.
نعم.. إنها معركة الكرامة، وليس من عجائب الاتفاقات أن يقع الجزء الأكبر من تلك المعركة على أرض بلدة اسمها الكرامة، فربنا سبحانه ذو تدبير بالغ الحكمة، أرادها أن تبقى مثلاً يُضرب للعالم بأسره، وللمسلمين، وخاصة الضباط والجنود في الجيش الأردني، وفي جيوش بلاد المسلمين... أنكم يا مسلمي اليوم لستم أقلّ من مسلمي الأمس الذين خاضوا المعارك فاتحين، حاملين راية الإسلام، يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، فدخل الناس في دين الله أفواجاً.. إن الضباط والجنود والفدائيين والمدنيين من سكان بلدة الكرامة وما حولها، الذين ضربوا أروع الأمثلة في البطولة والتضحية، وانتزعوا النصر انتزاعاً من جيش كيان يهود، وأذاقوه مُرّ الهزيمة... ما زالوا قادرين على تكرار تلك الواقعة مرات ومرات، إنكم أيها الجنود والضباط في الجيش الأردني قادرون على تسطير ملاحم البطولة والتضحية، قادرون على تحقيق النصر على كيان يهود، بل قادرون أن تجعلوه أثراً بعد عين إن صدقتم الله سبحانه وتعالى.. إنكم ما زلتم تحملون القلوب التي تبغضون بها يهود وكيانهم المسخ، وما زلتم تنعمون بتلك العقول التي خططت لهزيمة ذلك الكيان، وما زلتم تحملون تلك الأيدي التي بطشت بجيش كيان يهود، فجعلته ينقلب على عقبيه لا يلوي على شيء، وما زلتم تفخرون بتلك العزة التي مرّغت أنوف يهود في التراب..
وفي هذه الذكرى، وهذه المناسبة أذكّر ببشارة رسول الله e، في حديثه الشريف الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ».
إنكم - أيها الضباط والجنود - من نسل أولئك الأبطال، أبطال مؤتة واليرموك والكرامة، إنكم تحملون ما حملوا من الإسلام العظيم، وإنّ القوي العزيز الذي نصرهم قادر أن ينصركم إن سرتم على ما ساروا عليه، ولا تغرّنّكم كثرةُ أعدائكم فـ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، ولا تهولنّكم كثرة عتادهم، فعدوكم يكره الموت، ومن يكره الموت لا ينفعه عتاد ولا قوة، ويكفيكم أن الله معكم، فانصروا الله ينصركم، واصدقوا الله يصدقكم، وانتظروا إن فعلتم ذلك نصراً مؤزّرا يخلّد ذكركم، أو شهادة في جنة عرضها السماوات والأرض، وإن بحثتم عن القائد الحقيقي، القائد الواعي المخلص، فها هو ذا حزب التحرير، الرائد الذي لا يكذب أهله، الذي محضكم النصح، ولم يأل في ذلك شيئاً، ولم يحد عن طريق رسول الله e قيد أنملة.. فإلى الكرامة يا رجال الكرامة، وإلى نصر كنصر الكرامة بل هو أكبر أيها الضباط والجنود في الجيش الأردني، وفي جيوش بلاد المسلمين.
رأيك في الموضوع