منذ بدء الحملة البربرية الروسية في سوريا قبل أكثر من عام بإيعاز أمريكي، وسياسةُ روسيا في سوريا ثابتة، لإنجاز المهمة القذرة التي أوكلت إليها، ألا وهي محاولة كسر إرادة الثائرين الصابرين، عبر قصف يطال البشر والشجر والحجر وكل أسباب الحياة بشتى أنواع أسلحة التدمير، مع الإعلان بين الفينة والأخرى عن تهدئةٍ أو هدنٍ "إنسانية" ملغومة، تعلنها متى تشاء وتمددها متى تشاء وتنهيها متى تشاء، أملاً منها أن يدفع هذا المكر والإجرام أهل الشام لليأس والاستسلام، ومن ثم الركوع والخضوع لما تريده أمريكا من حلول مسمومة قاتلة.
وقد بات واضحاً أنه كلما كان هناك تحرك سياسي دولي ضد ثورة الشام من مبادرات أو مؤتمرات، سبقها قصف جنوني مجرم، يرافقه صمتٌ وتخاذلٌ بل تآمرٌ دولي، لوأد ثورة أقضّت مضاجع أمريكا والغرب ولأن الدماء التي تراق هي دماء المسلمين.
ومعلوم أيضاً أن النظام لم يجد سلاحاً هادئاً أفتك وأمضى من سلاح الهدن والمفاوضات الكارثية، التي يقضم من خلالها منطقة تلو أخرى أو يحيّدها، ثم يحاصر ويمعن في تدمير مناطق جديدة لتلحق بأخواتها.
في سياق ما سبق، يمكن فهم زعم روسيا وما أعلنته قبل أيام من هدنة "إنسانية" وفتح "ممرات آمنة" ودعوة "المسلحين" للخروج من مدينة حلب لأنهم باتوا محاصرين وأصابتهم خسائر فادحة حسب زعمها، في الوقت الذي أعلنت فيه عدد من الفصائل بدء معركةٍ لفك الحصار عن إخوانهم في المدينة. فقد أوردت رويترز أن روسيا قد(طلبت يوم الأربعاء من مقاتلي المعارضة السورية المتحصنين في مدينة حلب مغادرتها بحلول مساء الجمعة مشيرة إلى أنها ستمدد وقفا للغارات الجوية ضد أهداف داخل المدينة. وقالت وزارة الدفاع الروسية إنه سيُسمح لمقاتلي المعارضة بالخروج من المدينة سالمين بأسلحتهم فيما بين الساعة (0900) والساعة (1900) بالتوقيت المحلي في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر من خلال ممرين. وقالت وزارة الدفاع الروسية يوم الأربعاء إن مقاتلي المعارضة داخل حلب أصيبوا بخسائر فادحة خلال القتال وإنهم محاصرون بشكل فعلي. وأضافت الوزارة "كل محاولات مقاتلي المعارضة تحقيق انتصار في حلب باءت بالفشل").
إنه وإن كانت روسيا تحاول تخفيف حنق الأوروبيين عليها عبر الهدن، إلا أنافتراءاتها أعلاه تكذبها الوقائع الميدانية على الأرض؛ فقد تواترت عدة فيديوهات من داخل حلب المحاصرة تظهر ثبات أهلها وهممهم العالية ورفضهم الخروج إلا شهداء دفاعاً عن الدين والأرض والعرض، إضافةً لإصدار عدة فصائل لا تزال مرابطة على الجبهات لبيانات قطعية تؤكد رفضها للخروج وفضحها لمسرحية الروس والأمريكان السّمجة بضرورة فصل المعارضة "المعتدلة" عن غيرها و"صعوبة" تحقيق ذلك. كما أنه لم يصدر عن أي فصيل بيان واحد يقبل بالهدنة. ويكذّبها كذلك قوة العقيدة عند من اجتمعوا من المخلصين لفك الحصار، مع الإعداد الجيد والأخذ بالأسباب بعد التوكل على الله. ويُكذّب هذه الافتراءات أيضاً ما سبق أن أعلنته وزارة الدفاع الروسية نفسها، أن "قصف المسلحين للقسم الغربي من طريق الكاستيلو في حلب قد أسفر عن إصابة عسكريين روسيين من المركز الروسي لتنسيق الهدنة في سوريا بجروح"، وإصابة آخرين لاحقاً في منطقة أخرى داخل المدينة، ويكذّبها غرفة عمليات في الداخل المحاصر للتنسيق مع الفصائل التي تعمل على فك الحصار، والتي دب الرعب في قلوب أعدائها يوم الخميس الماضي بعد مقتلةٍ أصابتهم إثر هجوم مفاجئ للثوار على حي حلب الجديدة، ويكذّبها صد المخلصين لمحاولات تقدم النظام على عدة جبهات من طرف المدينة المحاصر، ويكذّبها إسقاط النظام لمنشورات ورقية جواً تدعو الناس للاستسلام قبل أن يصلهم "بواسل الجيش السوري" ما يجعل هؤلاء "البواسل" محل سخرية وتندّر عبر وسائل التواصل، ويكذّبها إرسال النظام منذ أمد بعيد لرسائل نصية عبر الجوال "كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد" فلا يزيد ذلك أهل حلب إلا يقيناً بنصر من الله وفتح قريب بإذن الله. وحتى التضخيم الإعلامي لاستقدام البوارج الروسية وتنوع القاذفات والقذائف ووصول آلاف جديدة من الجنود الروس راح يعطي أثراً عكسياً ضد الروس، إذ يزيد في الضغط عليهم فوق مأزقهم الذي هم فيه، كونهم غير قادرين على الحسم بعد 14 شهراً وإدراكهم أن "الدب الروسي" ليس سوى قاتل مأجور رخيص عند الأمريكان، ويكذّبها وصف دي ميستورا لمعركة فك الحصار بـ"القذرة" لأنها ليست معركة فك حصار فحسب، بل هي كسرٌ لإرادة أمريكا، ورفضٌ لحلها السياسي الذي بدأته بالهدن والمفاوضاتبرعاية الأمم المتحدة، شريكة روسيا والنظام في الإجرام عندما تشترط خروج "المسلحين" لضمان إيقاف القصف وإدخال "المعونات الإنسانية".
ولا يخفى علينا استماتة روسيا في إنجاح الهدنة المزعومة، لإفراغ حلب ممن يعارضون مشاريع أمريكا وإعادتها لحضن النظام ليسهل على أمريكا بعدها فرض حلولها القاتلة التي لخصها دي ميستورا بجملتين: "سوريا دولة علمانية، وتقاسم السلطة"، فقامت بتمديدها بعد يأسها هي ونظام الإجرام، بل ومن ورائهما أمريكا، من خروج أهل حلب والفصائل منها في محاولة جديدة لإغرائهم بالخروج وثنيهم عن العمل لفك الحصار الذي يُعمل له بقوة من داخل المدينة المحاصرة بالتنسيق مع الفصائل التي تحاول فك الحصار وكسر هيبة أمريكا وأذنابها والصنائع. ويكذّبها أيضاًأن قصف المشافي والمدارس والأسواق والأفران وكل ما يمت للمدنيين بصلة إنما هو أسلوب رخيص فاشل لكسر إرادة شعب ثائر صابر أقسم أن لا يركع إلا لله مهما كلف ذلك من تضحيات.
ومما يجب لفت النظر إليه، أن إعلان أمريكا وقف التنسيق مع روسيا أكثر من مرة إنما هو دجل مفضوح، لوضع روسيا في واجهة الإجرام مع تنصل أمريكا التي تقف حقيقةً خلف هذا الإجرام الذي لا يستغرب أن يتضاعف على أحياء حلب في قادم الأيام لما أبداه أهلها من ثبات ونبذ للخيانة ورفض لأي حلول استسلامية تسرق الدماء وتنسف التضحيات.
فصبراً أهلنا في حلب وسائر ربوع الشام، فلم يبق إلا القليل بإذن الله، فقد استخدم المجرمون شتى أنواع الأسلحة ضدكم أو كادوا، وأصابكم شظف الحصار وشدة القصف وعذابات التهجير وأنّات المجازر، فصمدتم واحتسبتم بفضل من الله وتثبيت، وكأن الله يُعِدّكم لأمر عظيم يا من قال فيكم رسول الله e: «طوبى للشام»، وقال: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم»، فاثبتوا وثقوا بوعد الله ونصره وتمكينه، فما بعد الضيق إلا الفرج، فمن صمد أمام فجار الأرض ست سنوات لقادر أن يتوج التضحيات بما يرضي الله، واعلموا أن الأصل في معركة حلب أن تكون خطوة في خطة لتصحيح المسار في حلب ومن ثم جمع القوى المخلصة على ما يرضي الله، للزحف نحو العاصمة، إذ هناك الفصل والملحمة، إذ هناك يسقط النظام وهناك يقام حكم الإسلام.وذلك لا يكون إلا بالاعتماد على الله وحده وقطع الحبال مع كل أعدائه من الغرب وأذنابه، ولا بد من حفظ التضحيات ودماء الشهداء من أن تستخدم لأغراض رخيصة يستثمرها الخونة البائعون في مفاوضات جنيف وغيرها. وإن أهل الشام لقادرون بإيمانهم وإخلاصهم ووعيهم على ما يحاك ضدهم من مؤامرات ومكائد أن يقلبوا الطاولة على رؤوس أمريكا وأشياعها وأذنابها من روس ومرتزقة إيران ولبنان وغيرهم، وأن يعيدوا الشام كما كانت، عقراً لدار الإسلام ولو كره المجرمون، خلافة راشدة على منهاج النبوة، يعز فيها الإسلام وأهله، ويزهق فيها الباطل وأهله، وإن ذلك لكائن بإذن الله، ولمثل ذلك فليعمل العاملون.
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
بقلم: ناصر شيخ عبد الحي
رأيك في الموضوع