هذا من جهة السلطان الروحي، أما السلطان السياسي - أي الحكم - فقد جعله الإسلام ملازما للقرآن، وهذا في منتهى الوضوح ويتجلى في:
1.أنّ القرآن إنّما أنزل للحكم، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، وقد حددت آية الأمراء بوضوح واجب وحق كل من الراعي والرعية، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [سورة النساء]، فولاة الأمور مأمورون بأداء الأمانات والحكم بالعدل، في حين إن الأمّة مأمورة بالطاعة في غير معصية، فإن وقع خلاف - أيُّ خلاف - فالكل مأمور بالرجوع إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله e.
2.نفى الإيمان عمّن يرفض الحكم بالقرآن والتّحاكم إليه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾، وقال سبحانه: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة]، وقال أيضا: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء].
3.التأكيد على أن حياة المسلمين لا تستقيم إلا في ظل إمام عادل وخليفة راشد - وخليفة واحد ليس غير - وأنّ الأمّة يجب أن تجتمع كلمتها على هذا الخليفة. فمن ناحية أوجب على الأمّة عدم خُلوّ زمانها من خليفة يطبق شرع اللّه فيها، قال e: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ»، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»، وقال e: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِى عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، والقاعدة الشرعية أنّ "ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب"، ومن ناحية أخرى حرّم تعدّد الدولة الإسلامية كما حرّم تجزئتها، ورتب على ذلك أشد العقاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾، فأمر بقتال الفئة الباغية إن لم تقبل الصلح والخضوع لأمر اللّه، وقال e: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا»، وقال أيضا: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»، وفي رواية أخرى «فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهِي جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ». هذا في ما يخص عقاب الدنيا، أمّا عقاب الآخرة فإنّ الذي يُقتل من الفئة الباغية لا شك أنّه في النار، كما أنّ من يفارق الجماعة لا شك يحلّ عليه غضب اللّه، قال e: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، وصحّ عنه e أنّ «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، وفي رواية أخرى «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ».
4.الثناء على الإمام العادل ورفعه إلى أعلى المنازل، فقد روي عنه e: «إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِل»، و«يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَدْلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةٍ»، وقد عدّه e: أوّل السبعة الذين «يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله»، ومن الثلاثة الذين «ليس بين دعوتهم وبين اللّه حجاب»، واعتبره درعا يحمي الأمّة حيث قال e «الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ».
5.إيجاب النّصح على الأمّة للخليفة واسترخاص الأنفس في سبيل ذلك، قال e: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا لِمَنْ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»، وقال e: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ»، وروي عنه e أنّ «سيّد الشّهداء حمزة بن عبد المطّلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله».
ومما لا شك فيه أن الرسول e قد مارس سلطات سياسية لا تصدر إلا عن حاكم وقائد دولة، كفصل الخصومات بين الناس في جميع الشؤون، وإقامة الحدود، وتعيين الولاة والقضاة، وتعبئة وقيادة الجيوش، وعقد المعاهدات، وغير ذلك من أمور السياسة الداخلية والخارجية على السواء، مما يلزم المسلمين جميعا بالدولة الإسلامية اتباعا للرسول e، وتأسيا به، وهو فرض عليهم، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وقال أيضا: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾.
والأمّة الإسلامية لم تختلف قط في وجوب الخلافة ووحدتها، وإنما كان الخلاف في شخص الخليفة، أي فيمن يكون خليفة، ورأي العلماء أنّ ولاية أمر الناس - أي الخلافة - من أعظم فرائض هذا الدين، بل هي أُمُّ الفرائض، إذ لا قيام للدين إلا بها، وهذا معنى قولهم "ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب"، فحفظ الدين وتنظيم الحياة على أساسه لا يتم إلا بالخلافة، وقد تواتر إجماع الصحابة رضوان اللّه عليهم على امتناع خُلوّ الزّمان من إمام وتركوا له أهم الأشياء وهو دفن رسول الله e، فالإجماع منعقد على أنّه لا يجوز أن يكون للمسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان لا متفقيْن ولا مفترقين ولا في مكانين ولا في مكان واحد. فالأمّة كما لا يحلّ لها أن تعيش بدون خليفة لا يحلّ لها أن تعيش بأكثر من خليفة.
هذه هي المقومات الحقيقية التي تقوم عليها وحدة الأمّة الإسلامية، وهي وحدة العقيدة ووحدة النظام والعيش بهذه العقيدة وهذا النظام في واقع الحياة، وهي واضحة، بيّنة وجليّة لكل مسلم يقرأ القرآن الكريم والحديث الشريف ويتدبر ذلك.
بقلم: عبد الله عبد الرحمن (أبو العز)
رأيك في الموضوع