قطع العمل لإقامة الخلافة شوطاً كبيراً ومُضنياً، ووُجِد عند الأمة وعيٌ على أهميتها، فصارت تتطلع إلى استعادتها بشوق وأمل. إلا أن هذا الأمر لم يبلغ مداه الكافي بعد، ما يعني وجود عقبات تحول دون ذلك، فينبغي تحديدها ومعالجتها. ولا شك أن العقبة الأولى في وجه إقامة الخلافة هي دول الكفر والأنظمة العميلة في بلادنا، إلا أن موضوع البحث ليس هذه الأنظمة، وإنما هو العقبات التي تحول دون تفعيل طاقات الأمة تفعيلاً يُسقط هذه الأنظمة ويقيم الخلافة على أنقاضها.
ولطالما كانت العقبة الأشد في طريق إنهاض المسلمين هي غياب التفكير المنتج المؤدي إلى معالجة المشاكل العامة للناس، وبتعبير آخر غياب أو اضمحلال التفكير السياسي، وهي مشكلة خدَّرت الدولة والأمة عقوداً بل قروناً قبل سقوط الخلافة، ولها ارتباط بمشكلة أخرى هي ضعف الاجتهاد، والضعف في الاجتهاد وفي التفكير السياسي هو سبب الانحطاط الذي أدى إلى انحدار الأمة قبل سقوط الخلافة. وهو أم العقبات، وكل العقبات الأخرى تفرعت عنه.
وقد ازداد الانحطاط بعد إسقاط الكفار الخلافة، فقد كان هؤلاء حريصين على أن لا تقوم للمسلمين قائمة، ومتنبِّهين لئلا تنقلب الأمور عليهم. فتعاملوا بشدة وصرامة مع أي عمل أو توجه فكري أو سياسي قد يُهدِّد نفوذهم، أو يحرك الناس للقيام بأعمال تستهدف استعادة سلطان الإسلام. وكان مبضع الجهل وضعف الإيمان قد فعل بالأمة ما فعله، فأدت سياسة الحديد والنار والقمع الشامل إلى انحسار الخطاب الفكري والعمل السياسي المؤثر في عملية التغيير، فانحصرت النشاطات في أعمال روحية وخيرية وتعليمية، وفي دروس ومواعظ تتجنّب العمل السياسي، ونشأت توجهات تنفِّر من السياسة، ولا تكترث بما تقوم عليه الدولة وتطبقه من أنظمة كفر، فازداد اضمحلال التفكير السياسي، وتبلد الإحساس بالتناقض بين الإسلام والكفر المطبق، وطغت على المجتمع الأفكار والأعمال التي تعالج مسائل جزئية أو خاصة، ولا صلة لها بتغيير الواقع، بل تساهم بتكريسه. وصار مستعصياً إدراك أهمية أو حتى معنى "طريقة عملية وشرعية" للتغيير. وفُهم قولُه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ خطأً، فكأنَّ معناه: حافظوا على العبادات والأخلاق وأعمال البر والخير وما شاكلها يمنُّ الله عليكم بالخلافة والنصر! فغلب على الناس وعلمائهم السطحية وتوقُّعُ التغيير من غير القيام بعمل يؤدي إليه، أو من أعمال لا تؤدي إليه.
من ذلك مثلاً توقع إنجاز التغيير المنشود أو النصر على كيان يهود، أو إسقاط أنظمة الكفر، بأعمال مسلحة تقوم بها منظمات أو جماعات، تعلن الثورة المسلحة أو الجهاد، وهي لا تملك القدرة على ذلك، ولا طريق لها للتمكُّن من شيء من ذلك، إلا بالارتماء في أحضان أنظمةِ خيانةٍ هنا أو كفر هناك. وبذلك تُقَدِّم للجمهور طُعْماً ينخدع به، فيقع فريسةً في مصيدة أعدائه الذين يُكَبِّلونه أكثر. وبذلك تضيع التضحيات في أعمال غير مجدية، بل ضارة. ولو حصل إعمال الفكر في هذا العمل وطريقه ومآله ومقتضياته، قبل البدء به، لتبين أنه لن يؤدي إلا إلى الفشل وتقديم تضحيات لا يقطف ثمرتها إلا أعداء الأمة. وما وصلت إليه هذه المنظمات، على اختلاف مشاربها، من عجز أو يأس أو خيانات، كان طبيعياً وحتمياً. أما التصفيق لها في البداية، وقبل الوصول إلى هذه النتائج المخزية، فسببه انحطاط التفكير، سواء بعدم الربط بين الأعمال وما يمكن أن تؤدي إليه، أو بافتقاد المقياس الشرعي والصحيح للأعمال.
إلا أن هذه التجارب الصادمة التي مرت بها الأمة، بل الأحداث المؤلمة والماعسة، أدت إلى أحاسيس خلَّصتها من هذا التبلد، فنشأت لديها تساؤلات، وكانت تساؤلات جادة حفزت على تفكير جاد وبحث، فتحرّك في الأمة التفكير العملي أو السياسي، الذي وإن كان ما زال دون الحد الكافي لبلوغ الهدف، إلا أنه كفيلٌ بتفسير أسباب انتهاء الجهود والتضحيات إلى سرابٍ وهباء ومزيد هزائم.
فعلى سبيل المثال يناضل البعض ليصل شخص ميوله إسلامية إلى سدة الحكم، حتى ولو كان وصوله بلا سلطة، أو لا يملك من أمر الحكم شيئاً. فهل مثل هؤلاء يدركون معنى الحكم، فضلاً عن معنى الحكم بما أنزل الله! وهل يُتوقَّع من الذين لا يدركون معنى الحكم، أن يقوموا بأعمال تؤدي إلى وجود الحكم بما أنزل الله! أم أنهم سيقومون بما يزيد ضعف الأمة ويساهم بتيئيسها! ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.
الشاهد في الكلام هو هذه السطحية التي يجب تخليص الأمة منها. ليدركوا مثلاً واقع الدولة ومفهومها، وهو أنها سلطة أو قوة تنفيذية. وأن من لا يمتلك هكذا قوة تحت سلطته وأمره فليس حاكماً، ولا يمكنه أن يحكم إلا بما يريده صاحب السلطة. ومتى وُجد إدراك عامٌ لمعنى الدولة يستيقظ الفكر على الأعمال الموصلة إليها، ويتسع أيضاً لإدراك معنى النصرة، وأنها القوة التي لا تقوم الدولة أو تستمر إلا بها. فينبذ المجتمع السطحية، ويكشف التضليل والخداع، فتتضافر الطاقات والجهود على العمل الصحيح والمجدي.
ومن العقبات التي نتجت عن ضعف التفكير السياسي والتشريعي، انتصاب مشايخ البلاط وعلماء السلاطين وقادة بعض الحركات الإسلامية، للفتوى والتنظير في الشؤون العامة والخطيرة كإقامة حكم الإسلام، فيقفزون- بسبب ضعفهم الشديد في التفكير السياسي والتشريعي - فوق أحكام الشرع، ويقدمون طروحاتٍ مصدرها ضعف الإيمان وأمراض القلوب. فيبررون مشاركتهم في الحكم بالكفر بذرائع تصوغها قلوبهم المريضة، ويسوِّغون الخضوع لشروط دول الكفر وحفظ مصالحها بذرائع تبررها نفوسهم المهزومة. وكلما ظهر تناقضهم مع الشرع رفعوا عقائرهم بأن الواقع صعب، وأن الحكمة تقتضي أن يقدموا للغرب ما يطلبه منهم كي يرضى عنهم ويشركهم في الحكم، وإلا فستصيبهم الدوائر. والعقبة هنا هي أنه ما زال يوجد في الأمة رأيٌ يتقبل هذه الطروحات، لأسباب منها الجهل، ومنها الخداع، ومنها الميل إلى الدعة والسهولة. وهذه العقبة خطرة لأنها تصيب منطقة الإيمان، وتجعل من الذين يقبلونها أعداءً لإقامة الخلافة، ولأنفسهم وأمتهم. ومعالجتها تكون بتفنيد طروحاتها، وبيان مخالفتها للشرع ولمقتضيات الإيمان. ولقد ردها القرآن رداً فاضحاً، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾.
ومن العقبات أيضاً، طروحات ما زالت تلقى أو تصادف قبولاً، فتؤدي إلى تسخير طاقات الأمة وشبابها، بأفكار يغلب عليها الجهل والقصور والسطحية. فترى مشايخ وجماعات تُحرِّم كشف منكرات الحكام أو الدعوة إلى العمل لإسقاطهم. يتتبَّعون النصوص المتشابهة، ويتجاهلون النصوص المحكمة، ويحرِّفون الأحكام بتأويلاتهم، ويضللون الأمة بانحرافاتهم، ويفتنون كثيرين بجعلهم أدوات للحكام وجواسيس، ويحاربون الدعوة إلى إقامة الخلافة حرباً لا هوادة فيها. وهذه العقبة تُعالَج بمخاطبة الأمة الخطابَ الشرعي والفكري، الذي يُحَذِّر من الاستنباطات القاصرة، ومن تحريف الأحكام. ويُبَيَّن ذلك بنماذج تحض على التفكير، وعلى محاكمة الأفكار وإحباط الفِتن. ولقد حذّر القرآن من هؤلاء وبيَّن أن في قلوبهم زيغاً، وأنهم يبتغون الفتنة. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾.
هذه العقبات هي بقايا لعقبات تم تصديعها خلال عقود من الصراع والكفاح. والأمة حالياً في حالة صراع وكفاح، لاستكمال الخروج من انحطاط التفكير السياسي والتشريعي الذي حال دون تأثير الأفكار في السلوك وفي إحداث النهضة. انتهى
بقلم: المهندس محمود عبد الكريم حسن
رأيك في الموضوع