28 رجب 1342 هجرية الموافق لـ3 آذار 1924 ميلادية تاريخ أليم في حياة المسلمين جميعاً. هو ذكرى فاجعةٍ غير عادية، بل هي أم الفواجع. ففي هذا اليوم أعلن مصطفى كمال إلغاء الخلافة، وسقوط الخلافة الإسلامية رسمياً، أي سقوط الكيان الذي قام على يدي رسول الله e بعد دعوةٍ ومعاناة، وصراعٍ وكفاح لمدة 13 عاماً، تعرض خلالها e هو وصحابته y لشتى صنوف العذاب والأذى، وبلغ الأمر أن تتآمر عليه قبائل الكفر وأحزابه لقتله، وأن يرسلوا خلفه من يأتي به حياً أو ميتاً، ولكنه rنجح في الوصول إلى دار النصرة والمنعة حيث أقام للإسلام كيانه ودولته، وتغير بذلك حال المسلمين من حال ضعف ومعاناة وتعذيب وخوف واختباء... إلى حال عزٍّ وسلطان، وبدأت الفتوحات وانتشر الإسلام في كل جهات الأرض وقاراتها. هذا الكيان الذي بسط سلطان الإيمان في الأرض وعزَّ به الإسلام والمسلمون، هُدِم تماماً في 28 رجب 1342 هجرية. لذلك لا يُستغربُ أن يرجع المسلمون بعد ذلك كلهم، كلُّ شعوبهم وكل أمتهم، إلى الوراء في كل شيء؛ في عزتهم ومنعتهم وأمنهم، في أمن وكرامات شيوخهم ونسائهم وذراريهم... لقد كان ذلك اليومُ يومَ هدم الخلافة أي: يومَ إسقاط راية الإسلام، وإزاحة الشريعة الإسلامية من الحكم والتطبيق، وتنحية القرآن والسنة جانباً، ووضع دساتير وقوانين كفر بدلاً من ذلك. فكان طبيعياً أن تتفرق الأمة الإسلامية شذر مذر، وأن تصبح الدولة الواحدة دويلات هزيلة تستجدي أمنها ورعايتها من عدوها، وأن تضيع مقدساتها في فلسطين وغيرها، وأن يحكمها الأنذال الأرذال، وينتصب للقيادة والريادة فيها التافهون والعملاء، يعبثون بمقدساتها وثرواتها، وبأعراضها ودمائها... وأن تتوالى الفواجع التي تتجاوز الوصف والتصور. وهذا غيضٌ من فيضٍ مما آل إليه حال المسلمين بعد إسقاط كيان الخلافة الذي بناه النبي e وعزَّ به المسلمون وشع به نور الإسلام على الدنيا، ثم هدمه الغرب الكافر، فذل المسلمون وغاض الإسلام من الحياة وخيَّم على المسلمين الظلم والظلام.
وعلى الرغم من هذه الفواجع، ومن فاجعة هدم الخلافة أمِّ الفواجع، فهناك ما هو أدهى وأخطر من هذا كله، وهو فاجعة نسيان الأمة الإسلامية هذه الذكرى الأليمة وجهلها بخطرها، وأن يستمر هذا الجهل بأهمية الخلافة وبِعِظمِ فاجعة هدمها. ومثل ذلك أن يتمكن الغرب الكافر وعملاؤه من تشويه فكرة الخلافة وصورتها، وصرف أبناء المسلمين عنها، بل وحملهم على التنكر لها والنفور منها، وجعلها محل أحاديث تندُّر وهزل بينهم، وفي مناهج التعليم والإعلام عندهم!
لذلك كان على كل مسلم حريص على دينه ونهضة أمته وعزتها، وعلى استعادة سلطان الإسلام وتبليغه والشهادة على البشرية، أن يدرك عظمَ هذه الفاجعة وأهمية إعادة إقامة الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية. وهذا لا يمكن أن يدركه أو أن يقوم بواجبه حياله من لا يدرك عِظَمَ فاجعة هدم الخلافة واستمرار غيابها. كما أنه لا يصح زعم إدراك حجم هذه الفاجعة ممن لا يدرك أنها سبب لكل ما نزل بالمسلمين بعدها من هزائم ومجازر وفواجع، أو لا ينطلق عاملاً أو داعماً لإعادتها ولتطبيق الإسلام ورفع رايته واستعادة عزته.
وإنه لمن الأجدى لمن لا جَلَدَ له أو قدرة على النظر لإدراك أهمية الخلافة ودورها المصيري للأمة الإسلامية، أو لمن تمكنت من فهمه أبواق التضليل التي تصد عن الخلافة أو تشكِّك بأهميتها، الأجدى لهؤلاء أن يُنعموا النظر ويتعمقوا في دلالة قول النبي e الذي رواه مسلم عن أبي هريرة t: «وإنما الإمام جُنَّةٌ يُقاتل من ورائه ويُتقى به»، والإمام هو الخليفة. وبذلك يدرك الناظر كم كان هدم الخلافة خطراً على الإسلام وعملاً شيطانياً. وكذلك حسبُ المسلمِ الذي لا يدرك أهمية الخلافة وعظم فاجعة هدمها، أو لا يشعر بذلك وبما جره هدمها على المسلمين من فواجع، حسبُه أن يعرف حكم الإسلام في حقه إذا لم يبايع خليفة، وأنه إذا مات على هذه الحال فميتته جاهلية. قال e : «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية» رواه مسلم عن ابن عمر t. ولا يرفع عنه هذا الإثم أو ينقذه من هذه الميتة الجاهلية إلا أن يكون عاملاً لإيجاد الخليفة ومبايعته ولكنه عاجزٌ عن ذلك، قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾.
يدرك الغرب الكافر الذي هدم الخلافة أهمية هذا الحدث الضخم وتداعياته الكارثية على الإسلام وأمته. لذلك فهو يعتبر تنفيذ مصطفى كمال لخطة هدم الخلافة والإجراءاتِ التي اتخذها لإقصاء الشريعة عن الحكم والحياة، والقوانين التي فرضها لمحاربة الإسلام، وإعلانه علمانية الدولة، من أهم الخدمات بل من أعظم الانتصارات على الإسلام ومن أهم الخطوات على طريق القضاء على وجوده. وعندما اعتُرِضَ على اللورد كرزون وزير الخارجية البريطاني آنذاك في مجلس العموم بسبب اعتراف بريطانيا باستقلال تركيا التي يُمكنُ – بنظر المُعترِض – أن تُعيد جمع المسلمين حولها مرةً أخرى وترُدَّ الهجوم على الغرب، أجاب كرزون بقوله: "لقد قضينا على تركيا التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم، لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة".
إن إدراك المسلمين وعلى رأسهم علماؤهم والعاملون في حقل الدعوة الإسلامية لحجم فاجعة إلغاء الخلافة، ونشر هذه الحقائق لسائر المسلمين ليدركوا أهمية الخلافة ككيان تنفيذي للإسلام، وأنها لا طريق سواها لحفظ الدين وكل الأهداف العليا لصيانة المجتمع وسائر المقاصد الشرعية، ولحضهم على العمل الجاد لإقامتها هو علامةُ يقظة الأمة وصحوتها. فالعمل لأجل هذه الغاية هو تاج الفروض وأوَّل الضروريات وأوْلاها.
وإن الغرب ليلمس اليوم خطر عودة الخلافة ويخشاها، لذلك أعلن حربه عليها وعلى كل دعوةٍ إلى الحكم بالإسلام، مهما اختلفت عناوين هذه الدعوة وأسماؤها، فأطلق على ذلك كله اسم الإرهاب، وأعلن عليه الحرب. وهذا يُلزِم المسلمين بأن يضاعفوا جهودهم وبذلهم في هذا الصراع، وأن يحْمِلوا مزيداً من أبناء الأمة على خوضه معهم لإقامة دولة الخلافة.
وبكلمة موجزة، إن الإسلام هو دين الله وله وحده الحكم والسيادة، ولا يمكن أن يوجَد ذلك أبداً إلا بدولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. وكل حكمٍ بغير الإسلام هو ظلم وقهر وضنك، ولا يكون حكمٌ بالإسلام بغير الخلافة، بل يغيض بذلك الإسلام ويذل المسلمون وتنتهك المحارم. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾. وقال: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾. صدق الله العظيم.
بقلم: المهندس محمود عبد الكريم حسن
رأيك في الموضوع