إن الاقتصاد يقوم على فكرة تعالج كيفية التملك وكيفية التصرف في الملك، وهي تبحث أسباب التملك تترك الإنسان يفكر في كيفية تنمية الملك والبحث عن مصادره فيما تجيزه، وتترك له التفكير في كيفية الحد من الإنفاق لئلا يقع تحت طائلة الدين. فكانت تركيا تقوم على فكرة الإسلام في ظل الخلافة العثمانية التي كانت أقوى دولة في العالم لقرون ولم تحدث فيها أزمات اقتصادية وبقيت عملتها الذهبية ثابتة حتى بعد هدمها.
وأما تركيا الحديثة! فبسبب تخليها عن هذه الفكرة وتبنيها لفكرة الكفر الرأسمالية أصبحت أسيرة الإملاءات الاستعمارية، فلم تتمكن من النهضة، بل تدهورت، فأصبح اقتصادها هشا عقب تأسيس مصطفى كمال لها بعد هدمه للخلافة وتخليه عن سياساتها وعن ولاياتها وممتلكاتها لحساب المستعمرين، فتضخمت مديونتها الخارجية، وضعفت قدرتها على السداد، وفرض الدائنون المستعمرون بصناديقهم وبنوكهم شروطا قاسية أدت إلى تسارع سقوط العملة إلى أن أصبح الدولار الذي كان يساوي ليرة واحدة، أصبح يساوي مليوناً و650 ألف ليرة عام 2001 على عهد أجاويد الموالي للإنجليز فسقطت حكومته وجرت انتخابات عام 2002 لينجح أردوغان وحزبه بدعم أمريكي. فتوقفت الضغوطات على تركيا، وتحولت ديون صندوق النقد الدولي إلى ديون للمستثمرين وبنوكهم الأجنبية التابعة للدول الاستعمارية.
وواصلت العملة سقوطها فأصبح الدولار يساوي مليونا و790 ألف ليرة. فاتَّخذت الحكومة قراراً بإلغاء ستة أصفار وبدأت العمل به يوم 1/1/2005، فأصبح الدولار يساوي 1,79 ليرة. واستقر ذلك حتى عام 2013، فبدأت الليرة بالسقوط مجدداً، وسجَّلت هبوطاً كبيراً بنسبة 30% خلال تسعة أشهر حتى بداية عام 2014 ولم تتوقف حتى اليوم، وحاولت حكومة أردوغان الحدّ من الهبوط والمحافظة على الاستقرار ولكنَّها لم تستطع. وبدأت الليرة تسقط منذُ بداية عام 2018 بشكل لافت، ففقدت خلال ستة أشهر 21% من قيمتها. وكانت عوامل السقوط اقتصادية على الأكثر. إذ إن الوضع السياسي استقر لأردوغان وقوي نفوذه وأمسك بزمام الأمور وخاصة بعد فشل محاولة الانقلاب عليه يوم 15/07/2016، ومع ذلك بقي الاقتصاد يتخبط.
وعندما أعلن البنك المركزي التركي يوم 24/07/2018 استقرار النسبة الربوية عند 17,75% حسب طلب أردوغان انخفضت قيمة العملة 20% وبلغت نسبة التضخم 15,85%، إذ إن المطلوب خفضها إلى ما تحت 5% لتناسب مقاييس الاتحاد الأوروبي وهي تسعى لدخوله، لتؤكد مدى هشاشة اقتصادها. وعقب ذلك ظهرت فجأة تهديدات الرئيس الأمريكي بفرض عقوبات على تركيا إذا لم يتم إطلاق سراح القس الأمريكي الجاسوس برونسون فورا، وبالفعل فرضت العقوبات يوم 10/08/2018 لتواصل العملة سقوطها وليرتفع التضخم ليبلغ 25% بعد شهرين، وارتفع العجز التجاري فبلغ 37,5%.
فكانت عوامل السقوط اقتصادية، بإضافة عامل سياسي للتغطية على حقيقة انهيار الاقتصاد لحماية أردوغان الموالي لأمريكا بسبب عجزه عن إيقافه لئلا يسقط، فتوهم كثير من الناس أن السبب هو أمريكا، وعزف أردوغان على هذا الوتر. علما أن عقوباتها رفعت بعد إطلاق سراح القس الجاسوس يوم 12/10/2018 وتحسنت العلاقات بين الطرفين.
فكان استقرار العملة لبضع سنين وإعطاء مؤشرات على نمو الاقتصاد ليس بسبب أنه تم علاج أسباب هشاشة الاقتصاد التركي وأنه أقيم على ركائز قوية وليس على عكازات، بل كان ذلك بسبب عوامل سياسية بالدرجة الأولى، فخفت ضغوطات الدائنين على حكومة أردوغان وجرى تلميعها لتعتبر نموذجا ناجحا حتى تخدع المسلمين باتباع نهجه العلماني الديمقراطي السائر في ركاب الغرب، فتعاونت أوروبا مع أمريكا في هذا الشأن، وفتحت الأبواب للمستثمرين وخاصة الأوروبيين، فتضاعف الدين الخارجي ثلاث مرات وأكثر على عهد أردوغان من 130 مليار دولار يوم استلم الحكم ليبلغ 453 مليار دولار يوم 28/06/2019 كما أعلنت وزارة الخزانة والمالية. وقام البنك المركزي بتخفيض النسبة الربوية إلى 19,75% لتنشيط الاقتصاد بعدما حصل شبه ركود، وفي كل الحالات ظلت الليرة تنخفض، لتبلغ خسائرها أمام الدولار هذه السنة 8%. وما زالت نسبة التضخم عالية فبلغت 16,65% في تموز الماضي وتراجعت في آب الماضي إلى 15,1% حسب معهد الإحصاء التركي.
وتعمل أمريكا على دعم أردوغان بزيادة حجم التبادل التجاري إلى أربعة أضعاف بل إلى 100 مليار دولار كما أعلن ترامب عند اجتماعه مع أردوغان على هامش قمة العشرين في اليابان يومي 28-29/06/2019، علما أنه بلغ العام الماضي 18,7 مليار دولار ويميل لصالح أمريكا بنحو 11 مليارا. ولهذا إذا ارتفع حجم التجارة بينهما فعلا، فإنه سوف يميل لحساب أمريكا وسيكون ذلك على حساب أوروبا الذي يبلغ حاليا 160 مليار دولار ويميل لحساب أوروبا. وكأن أمريكا تريد أن تضرب أوروبا في ظل الحرب التجارية التي تخوضها ضد أعدائها وأصدقائها بعدما سمحت لها سابقا بزيادة الاستثمارات لدعم أردوغان.
وهكذا فإن مشكلة تركيا في الأساس هي الفكرة القائمة عليها وتطبيقها للمعالجات النابعة منها واتباعها للسياسات القائمة عليها والتي يشرف عليها المستعمرون، فكان ارتباطها بهم وبالاً عليها، ولم تتمكن من النهضة على هذه الفكرة بسبب تبعيتها ولعدم تبني الناس للفكرة التي فرضت عليهم بالحديد والنار وهم متمسكون بدينهم الحنيف الذي ينبع منه نظام شامل للحياة ومنن النظام الاقتصادي الإسلامي. فمنذ عهد مصطفى كمال ارتبطت تركيا ببريطانيا وجاء حكام كمندريس وديميريل وأوزال عملوا على فصلها عن بريطانيا والسير مع أمريكا. إلى أن تمكن أردوغان من ذلك فأصبحت تركيا تسير في فلك أمريكا. وبات ينفذ لها ما تريد في المنطقة وخاصة في سوريا حتى تدعمه في الحكم وتدعم الاقتصاد التركي، فصار اقتصادها يعتمد على الديون الخارجية والمستثمرين الأجانب، ولم يعتمد على سياسة اقتصادية سليمة، ولا على مصادر اقتصادية متينة، فلم تحدث ثورة صناعية وتكنولوجية وإلكترونية، بل بقيت مرتبطة بالخارج. ويتأثر اقتصادها بالتقلبات والضغوطات السياسية والاقتصادية، وهو لا يقوم على سياسة الاكتفاء الذاتي التي يفرضها الإسلام. ويحرص أردوغان على إظهار نجاحه الاقتصادي وتساعده أمريكا حتى يحقق نجاحا سياسيا سواء في الانتخابات أو للبقاء في الحكم. والآن ظهر مدى عمق الأزمة ومدى عقم المعالجات وفشل السياسات فتضعضعت الثقة به، وبدأ مصيره يتأرجح وتزداد المعارضة من داخل حزبه ويتعرض لصفعات قوية في الانتخابات، ويحاول أن يغطي على فشله بمشكلة اللاجئين السوريين الموجودين منذ عام 2012 ولم يكن لهم أي دور سلبي في الاقتصاد، بل كان دورهم إيجابيا، وهم إخوة، وكان يصفهم بذلك، والآن أصبحوا أجانب في نظره ونظر أمثاله المضللين!
رأيك في الموضوع