خطورة التوظيف السياسي للمسلمين من النخبِ العلمانية التابعة للغرب!
إن أكثر ما يبرز لدى المتتبعين من العوامل التي تتحكم في معادلة السلطة في الجزائر، عدا المصالح والمنافع الشخصية التي تحكمها داخلياً النفعيةُ والحزبيةُ والانتماءات القومية والجهوية المغلفةُ كلها بالوطنية الوضيعة الزائفة، هو تلك الارتباطات والولاءات للأطراف الفاعلة على الساحة الدولية، أي الجهات الأجنبية الأوروبية خاصةً ذاتِ النفوذ في الأوساط السياسية الفاعلة في البلاد، المدنية منها والعسكرية، يضاف إلى ذلك محاولاتُ أمريكا الحثيثة الولوج إلى الوسط السياسي في الجزائر وإلى منطقة الساحل وشمال أفريقيا من خلال ورقة مكافحة (الإرهاب)، كما تفعل الآن في ليبيا عبر عميلها اللواء خليفة حفتر.
وباعتبار أن أوضاع المسلمين في جميع بلدانهم هي أوضاع متردية للغاية بسبب إبعاد الإسلام الذي هو مبدأ الأمة عن الشأن العام كنظام للحياة، وبسبب خنوع الحكام للعدو المستعمِر وتبعية النظم القائمة منذ نشأة الدول الوطنية في بلاد المسلمين عقب ذهاب الخلافة العثمانية، فإن من الطبيعي أن يثور الناس في الجزائر وفي غيرها على الواقع المرير مطالبين بالتغيير.
إلا أنه لا بد في العمل السياسي الذي يهدف إلى تصحيح أوضاع الأمة بإقامة الخلافة في عالم تحكمه اليومَ بقبضة من حديد منظومةُ الدول الرأسمالية الغربية، من عدم تجاهل الصراع الدولي في بلاد المسلمين والتطاحن على نهب ثرواتها. بل إن من أفظع الزلل أن يحاول العاملون لتغيير حال الأمة الانخراط بالشعارات نفسها فيما يجري في الساحة من حراك ومسيرات هذه الأيام كأنهم هم صانعوه على اعتبار أن هذه الأمة هي أمتهم وأن المحتجين هم من أبناء أمتهم. فالهبة الشعبية ضد الظلم والفساد والقمع لن تكون في صالح الأمة باتجاه الانعتاق من هيمنة الغرب إلا بقدر ما ينجح أبناؤها المخلصون الواعون سياسياً في حمل الناس على مواجهة مخططات الغرب التي ينفذها الحكام العملاء في بلادهم. والحقيقة هي أن الجهة المحرِّكة هذه المرة للشارع في الجزائر من عُصب منظومة الحكم القائمة في هذا البلد الممسوك أوروبياً تريد أن تستثمر حراك الشارع مستغلةً حالة الانسداد بل الانهيار جراء عقود من الفساد المستشري في البلاد على كافة الأصعدة، ومستثمرةً امتعاض الناس وحالة الرفض والسخط على السلطةِ، كل ذلك بغرض التموقع في مرحلة ما بعد بوتفليقة وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية... ولهذا فإنها تبذل الآن جهوداً مضنية في هذا الاتجاه عن طريق تحريك التظاهرات والمسيرات السلمية في الشارع المنادية والمطالبة بالحرية والديمقراطية وتغيير النظام من خلال أذنابها من غلاة العلمانيين المرتبطين بفرنسا في منطقة القبائل تحديداً. وليس لها في حقيقة الأمر إلا ذلك، بعدما هيمن رجالُ الإنجليز على أغلب مراكز التأثير وصنع القرار وعلى كل مفاصل الدولة! وهو ما جعل النخب العلمانية التابعة للمستعمر القديم من أذناب فرنسا ترفع السقفَ إلى حد المطالبة بإنشاء الجمهورية الثانية بل إلى إعادة النظر في بيان أول تشرين الثاني/نوفمبر الذي انطلقت على أساسه ثورة التحرير على المستعمر الأوروبي في 1954م وتأسست بموجبه الدولةُ الوطنية الحالية. إلا أنه يجري الآن كذلك ركوبُ الأحداث واحتواء وتوجيه الحراك أيضاً من الطرف المتحكم في زمام الأمور في البلد أي قيادة أركان الجيش لِما رأت من حجم الحراك الشعبي وأعداد المحتجين ومن تصميم لدى الجماهير على التغيير. ولكن إلى أين؟ ولهذا بدا من رئاسة أركان الجيش خطاب ممالئ للشعب، وهو ما يعني سياسياً على أرض الواقع التخلي عن بوتفليقة ومحيطه الفاسد، الأمر الذي عجل بسقوطه تحت ضغط الشارع، وذلك بغرض اكتساب الشرعية في مرحلة ما بعد بوتفليقة ولكن لصالح الزمرة نفسها والدفع باتجاه مرحلة يجب أن تبدو جديدةً لن يُقصى منها أحد بزعمهم، وتتوافق على أساس مخرجاتـِها كلُّ أطياف الشعب، ولكن يجب التنبه إلى أن المؤسسة العسكرية ممثلةً بقيادة الأركان (الفريق أحمد قايد صالح ورجاله) كانت، ومعها قادة الأجهزة الأمنية إلى عهد قريب، منسجمةً مع محيط الرئيس الفاسد. لقد كانت رئاسة الأركان منسجمةً تصوراً وعملاً بشكل كامل لصالح المستعمِر في تكريس علمنة الحياة وتكريس جميع أصناف الفساد والإفساد الممنهج بالنهب والاستيلاء على مقدرات الأمة وثرواتها مع كل هؤلاء ومَن حولهم من أصحاب المال ورجال الأعمال من أمثال علي حداد وكونيناف ذي العلاقة القوية مع دولة الإمارات وسيدي السعيد رأس نقابة العمال وغيرهم، بل كانت متخندقةً سياسياً خلفهم في مطلب العهدة الخامسةِ لرئيس مقعد غائب، إلى غاية حدوث هذا الحراك الشعبي المشاهد اليوم.
الحراك الشعبي في الجزائر تجاوز في مطالبه أغراضَ العُصب المتناحرة!
نعم إن زخم الحراك الشعبي خصوصاً بعد يوم الجمعة الثانية من الحراك 01/03/2019م كان قد تجاوز كل ما كان يتوقعُه الجميع، وذلك نتيجة درجة الاحتقان والغليان في أوساط الشعب ونتيجة كسر حاجز الخوف عند أغلب أطيافه، وهو ما أربك أصحابَ القرار وأوقع السلطةَ في مأزق جعل أقطابَها يعيدون الحسابات. تمثل ذلك في رفع سقف المطالب بالنسبة لأتباع فرنسا والميل لركوب الحراك بالنسبة لجناح الإنجليز. كما أدخل الحراكُ الشعبي أحزابَ السلطة جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي وجميع الهيئات التابعة للسلطة كنقابة العمال ومنتدى رؤساء المؤسسات في موقف صعب للغاية تمثل في استقالات وتصدعات وانشقاقات وانقلاب على المواقف وتغيير سريع في الخطاب، ولكن الأهم من كل هذه الأطراف إنما هو ثقل هيئة أركان الجيش التي بدأت منذ الجمعة الثانية والثالثة من الاحتجاجات تغير، عبر تصريحات رئيسها، من نبرتها تجاه الأحداث، لتصل يوم 30/03/2019م إلى ما يبدو انحيازاً كاملاً لمطالب الشعب من خلال ما ورد في خطاب رئيس الأركان الذي اقترح فيه تفعيل المادة 102 من دستور 2016م التي أفضت إلى تنحية بوتفليقة وتفعيل المادتين 7 و8 اللتين تُرجعان السلطة والسيادة وشرعيةَ كافة المؤسسات إلى الشعب! وإن المؤشرات من الميدان لتدل على أن كل ذلك لا يعدو سوى مناورة من ألاعيب الزمرة النافذة من وحي شياطين الإنجليز تمثلت في التمسك بالمسار الدستوري بشكل حازم وبافتعال صراع وهمي بين الرئاسة وبين قيادة الجيش، يُـمكِّن هذه الأخيرةَ من إمضاء كل ما تريد، أي كل ما سوف تُمضي في قابل الأيام برضا الشعب بل وكأنه بتفويض من الشعب للجيش الوطني الشعبي لإمضائه ضمن الأطر الدستورية! مع إعطاء كل ضمانات السلامة وعدم المحاسبة للرئيس المبعَد وعائلته والمقربين منه. كما يمكنها من الالتفاف على مطالب الحراك بـإزاحة كل رموز الفساد الممقوتين شعبيا من المتورطين من زمرة الرئيس في نهب وسرقة أموال الشعب وتحويلها إلى ملاذاتٍ خارج البلاد، وحصر الفساد في الدائرة الأولى من هؤلاء المفسدين الذين كانوا في الواجهة، دون الرئيس ولا الدوائر الخلفية من جنرالات الجيش الفاسدين بما في ذلك رئيس الأركان! وهو ما يقطع الطريقَ على جماعة فرنسا ويفوت عليهم استغلالَ الشارع للوصول إلى مآربهم وقلب الطاولة على زمرة الإنجليز من خلال رفع سقف المطالب إلى ما هو أكثر بكثير من إزاحة بوتفليقة وزمرته! فقد أورد بعض الإعلام التابع لقيادة الأركان (قناة الشروق الفضائية) يوم 30/03/2019م خبراً لافتاً مفاده أن شقيق الرئيس اجتمع إلى توفيق رئيس جهاز المخابرات السابق، بحضور بعض القيادات السياسية الموالية لفرنسا، لم تفصح القناة عن أسمائهم، بغرض ضبط خارطة طريق للمرحلة المقبلة تفضي إلى الإتيان بالرئيس الأسبق زروال ليرأس فترة انتقالية مع توفيق مستشاراً أمنياً له، وهو ما اعتبرته قيادةُ الأركان في بيان صدر عنها في اليوم نفسه انقلاباً على الدستور ومؤامرةً على الجيش بل خيانةً من هؤلاء تستحق أشد العقاب، وتستوجب نهوضَ الشعب للوقوف صفّاً واحداً مع الشعب في وجه أذناب بل عملاء فرنسا لمنع هذه العصابة من الاستحواذ على الحكم حتى لا يحصل مجدداً ما حصل عقب انقلاب 1992م وما بعده!! وهو ما زاد في رصيد الجيش وقيادته باتجاه "الالتحام" مع الشعب في المواقف وارتماء الشعب في أحضان الجيش عبر حمايته وتحقيق مطالبه ولو في الظاهر، مما زاد في هامش المناورة لدى قيادة الأركان في ربح الوقت والاستفادة من كل ذلك في مراحل الصراع المقبلة!
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع