تعد قضية الشرق الأوسط واحدة من أهم قضايا العالم الست حيث تدور فيها العديد من الأعمال السياسية ذات الصلة الوثيقة بين الاستعمار القديم "الأوروبي" الذي وضع يده عليها ودام استعماره لها لأكثر من مائة عام، وبين الاستعمار الجديد "الأمريكي"، الساعي للسيطرة عليها، وإخراج الاستعمار السابق. تحتل اليمن مكاناً ذا أهمية في الشرق الأوسط، جعلها محل أطماع المستعمرين القدامى والجدد. استعمار بريطانيا 129 عاماً للجزء الجنوبي من اليمن، مكّنها في الأخير من إعادة جنودها من حيث أتوا، وإبقاء نفوذها فيه ومد يدها مباشرة وغير مباشرة بواسطة نظام آل سعود في الجزء الشمالي الذي لم تحتله، وأفشلت كل مخططات أمريكا السياسية والعسكرية في بسط نفوذها على جميع اليمن أو على جزء منه.
كاستعمار جديد في منطقة الشرق الأوسط لم تستطع أمريكا الفكاك من بريطانيا المستعمر القديم للمنطقة التي لم ترد أن تخلي المنطقة لصالح مستعمر جديد، حتى مؤتمر الدبلوماسيين الأمريكيين المنعقد في إسطنبول عام 1950م، الذي رسم لأمريكا سياسة خاصة بها للمنطقة منفصلة عن سياسة بريطانيا.
أخذت أمريكا ترسم سياستها لمنطقة الشرق الأوسط وفق مقوماته (الإسلام، والموقع الاستراتيجي، والثروات النفطية والمعدنية، والبحار والمحيطات، الأراضي الزراعية الخصبة). فكانت في البداية تراوغ حكام المسلمين في الشرق الأوسط، وانتهت إلى مواجهة الإسلام ومحاربته، وصياغة إسلام مدجن يوافق عقيدة فصل الدين عن الحياة، عن طريق قواعدها العسكرية ووضع يدها على نفط الشرق الأوسط وثرواته الطبيعية وتعطيل زراعته عن طريق برامج محاصيلها الزراعية المرتبطة بالأسمدة والمبيدات التي تنتجها، ومنع منطقة الشرق الأوسط من برامج المحاصيل الاستراتيجية كالحبوب بمختلف أصنافها وتوجيه زراعتها للمحاصيل النقدية، وإتلاف تربتها الزراعية عن طريق المبيدات، وجعلها تعتمد كلية على استيراد الحبوب.
سنتناول في هذه المقالة الأعمال السياسية الأمريكية في اليمن منذ 1990م وحتى وقتنا الحالي 2019م.
تفاجأت أمريكا بتوحيد شطري اليمن في 22 أيار/مايو 1990م كما تفاجأت به جماعة صالح وحزب البيض. لكن أمريكا سرعان ما وجهت جهودها الدبلوماسية عبر سفيرها لدى اليمن آنذاك آرثر هيوز لتوسيع شقة الخلاف بين شريكي الوحدة فأوصلها حد الحرب في أيار/مايو 1994م، ووقفت أمريكا في صف الحزب الاشتراكي الذي زار أمينه العام واشنطن مطلع العام 1994م، وأعلن انفصال جنوب اليمن في 19 حزيران/يونيو 1994م أثناء الحرب، وأرسلت أمريكا رجلها الأممي الأخضر الإبراهيمي لتثبيت انفصال الجنوب عن الشمال فلم تتمكن... لتنتهي الحرب في 7 تموز/يوليو 1994م.
حين فشل مخطط الانفصال، سارعت أمريكا لإدخال البنك الدولي إلى اليمن في العام التالي 1995م الذي شرع في إجراء معالجات اقتصادية قدمها لليمن كرفع الدعم عن المشتقات النفطية والمواد الغذائية الأساسية وإصدار أذون الخزانة واستراتيجية الأجور والمرتبات، التي هدف من خلالها إلى تسديد أقساط الربا على القروض المقدمة لليمن وليس لتحسين الأداء الاقتصادي للبلاد، ولضرب الاستقرار لتغيير نظام الحكم، كما تصيّدها الحوثيون في 21 أيلول/سبتمبر 2014م حين رفعوا شعار إسقاط الجرعة والحكومة.
استغلت أمريكا حادثة تفجير المدمرة الأمريكية كول بعدن في تشرين أول/أكتوبر 2000م لإنزال جنودها بعدن فمنعوا، ومكنتها من فتح مكاتب للتحقيق الفيدرالي FBI في اليمن، ثم مكاتب للمخابرات الأمريكية CIA بعد تدمير برجي التجارية بنيويورك في 21 أيلول/ سبتمبر2001م وقامت بتكوين قوات لمكافحة (الإرهاب) في اليمن وباشرت تدريبهم وتسليحهم بقصد النفاذ إلى الجيش في اليمن. ومن ثم قامت بادخال برنامج القتل بالطائرات بدون طيار للقتل دون محاكمة بقتل سنان الحارثي بمأرب في 2004م ولتأليب الناس على علي صالح. وقامت أيضاً بإنشاء مشروع نزع الألغام بالقرب من محافظة عدن، وقامت بالتدريب على نزع الألغام التي خلفتها حرب الانفصال. واستهدفت إنشاء جهاز الأمن القومي في عام 2006م مستخدمة برامجها وتقنياتها استغلالا لأحداث القرصنة على الشواطئ الصومالية قامت أمريكا في 2007م بإنشاء وتدريب خفر السواحل في عدن. ثم أخذت لنفسها في المبادرة الخليجية إعادة هيكلة الجيش الذي يتواصل عمله بعيدا عن الأنظار حتى وقتنا الحاضر.
لدخول الوزارات في اليمن عملت عن طريق مساعداتها في وزارات الصحة والإعلام والأوقاف والإرشاد بإقامة الندوات والمؤتمرات في خدمة الصحة الإنجابية وتحديد النسل بالدعوة لها وتوفير الوسائل لتحقيق ذلك كتأخير الزواج بمنع زواج الصغيرات والتخويف من حمل النساء المتجاوزات العقد الرابع من أعمارهن وتوفير حبوب ولوالب وأكياس عزل وشرائح تحت الجلد لمنع الحمل وإنتاج مواد إعلامية لكل ذلك تذاع في الراديو والتلفزيون بهدف إيصالها إلى جميع الناس، وجعل أئمة وخطباء المساجد يؤيدون ذلك ويشجعونه ولا يعارضونه، وابتعاث من يأنسون فيه أن يجعلوه من جنودهم إلى أمريكا. ثم وزارات الزراعة والتعليم العالي والخارجية عن طريق برامج تخصهم.
رعت أمريكا عن طريق سفارتها لدى اليمن في عام 2009م إقامة منظمات المجتمع المدني ودعمتها بالتنظيم والمال وبالأفكار التي تتبناها وتدور حولها، فانتشرت تلك المنظمات في طول البلاد وعرضها. وهي تدفع بها منذ تلك الأيام وحتى اليوم لتكون جزءاً من الوسط السياسي الجديد في البلاد.
أما في ثورة شباط/فبراير 2011م فقد حرصت أمريكا على إخراج علي صالح من الحكم؛ لأنه كان يقف حجر عثرة أمام مخططاتها في اليمن، وحين لم يستجب حاولت اغتياله بصاروخ فوجاز في مسجد الرئاسة بالنهدين في 09/06/2011م.
ضغطت أمريكا في عام 2014م على علي صالح لإجراء تعديل وزاري على حكومة باسندوه، فأدخلت فيه وزيرين من رجالها هما محمد زمام وزيراً للمالية وجمال السلال وزيراً للخارجية.
وكعادة أمريكا في العمل من خلال أذرع لها في البلد عملت داخل الأحزاب لتشظّيها بغية الحصول على من يعمل معها لتسليمهم الحكم في اليمن، وعملت داخل حزبي الإصلاح والاشتراكي إلى جانب الناصريين "الحزب الوحدوي"، فأوجدت أشخاصاً في الإصلاح كمحمد قحطان وتوكل كرمان وشوقي القاضي وخالد الأنسي وألفت الدبعي. ولم تعيَ بمد يدها إلى الحوثيين عن طريق إيران، وتجعلهم يُنهكون الاقتصاد خلال ستة حروب امتدت من 2004م-2011م. وهي تقف معهم في الحرب الدائرة في اليمن وتتبادل معهم المعلومات الاستخباراتية تحت عنوان محاربة (الإرهاب)...
... يتبع
رأيك في الموضوع