عقد الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يوم الخميس 27/12/2018م مجلساً للوزراء، وهو مجلس كان ينتظر منه الكثير، خاصة وأنه أتى في أعقاب الجدل الكبير الدائر بشأن إمكانية تأجيل الانتخابات الرئاسية وتمديد الولاية الحالية للرئيس بوتفليقة، وهو ما يعني بحسب المراقبين ضرورة إعادة صياغة نص الدستور. إلا أنه تبين أن لا شيء تمخض عن اللقاء بشأن الرئاسيات المقبلة، وأن أبرز ما جرى خلاله إنما هو التوقيع على قانون المالية لسنة 2019م لا غير.
تؤشر الأحداث الجارية في الجزائر في هذه الآونة إلى أن المقربين من دوائر السلطة المرتبطين بحكم الرئيس وبأفراد عائلته والمنتفعين قرابة عشرين عاماً من بقاء الجهاز القائم ولو باسم بوتفليقة الغائب كلياً عن المشهد لن يكون من اليسير برمجتـُهم جميعاً على إيقاع مرحلةٍ جديدة سوف تبدأ قريباً وتقتضي ألا يكون بوتفليقة فارسها. لذا تطلب الأمرُ تهيئة جميع هذه الأوساط لاستقبال مَن سيقود "مرحلة ما بعد بوتفليقة" في الفترة المقبلة! فنظراً للوضع الصحي للرئيس، ونظراً لانتهائه بيولوجياً وقرب انسحابه كلياً، لن يكون من اليسير تمريرُ عهدة جديدةٍ من حكمه، ولا تكريسُ التمديد للعصبة المتنفذة باسمه. فضلاً عن تأجيل الانتخابات الرئاسية عن موعدها، كما اقترحت بعض الأطراف. ولهذا توقف الجميع منذ أشهر عن ذكر عبارة "العهدة الخامسة" وحل محلها مصطلح "الاستمرارية"!! إلا أن الاستمرارية التي يقصدها هؤلاء لا تعني بالضرورة عهدةً خامسة للرئيس كما يتوهم الكثير، إنما تعني بقاء زمرة بوتفليقة الفاسدة ماسكةً بزمام الأمور في البلد به أو بغيره، مستثمرين فيما طُرح بإيعاز من الجهات الفاعلة في النظام (على مستوى الرئاسة تحديداً) من مبادراتٍ من مختلف الأطراف السياسية في مشهد يكتنفهُ الترقب والتكتم والغموض، كتأجيل الانتخابات الرئاسية أو التمديد للرئيس الحالي أو عقد ندوة وطنية للتوافق تُـفضي إلى إعادة صياغة الدستور أو تعديله، أو غير ذلك، فيما بدا أنه ملء للفراغ أو إشغال لمختلف الأطراف بالتراشق سياسياً، ريثما يتم ترتيب أمر الرئاسة المقبلة وفق ما يتقررُ في الدوائر المتحكمة حقيقةً في صنع القرار في البلد.
فبحسب ما يرد من معلومات شبه مؤكدة عن حال بوتفليقة ووضعه الصحي الذي يستحيل معه مباشرة مهام الرئاسة، وبحكم أن قيادة أركان الجيش منذ نشأة الدولة إلى اليوم هي دوماً مَن يفصل في أمر مَن يتولى منصب الرئاسة، كونها هي الجهة التي تحكم البلد فعلاً منذ خروج المستعمِر عسكرياً، وهي الضامن للتبعية للاستعمار الأوروبي، وذلك باستخدام أداة الفعل السياسي في الجزائر على مدى عقود، أعني جبهة التحرير الوطني.. وإذ لا بد من حسم المسألة والبت في ملف الرئاسيات المقبلة مع اقتراب عهدة بوتفليقة الرابعة من نهايتها سواء بفترة رئاسيةٍ خامسة أو بغيرها...
فإن ما يحصل الآن من حراك في الوسط السياسي وما يُطرح من مبادرات من مختلف الجهات، وما يشاهد في الساحة السياسية والإعلامية من تجاذبات وتراشقات رافقت هذا الحراك، بل كل ما يحدث هذه الأيام من تناطح بين مختلف الأطراف السياسية من أحزاب التحالف الرئاسي ومن أحزاب ما يسمى المعارضة، على خلفية اقتراب موعد الانتخابات وحالة الانسداد التي يعيشها النظام القائم بحسب أغلب هذه الأطراف.. كل هذا في واقع الأمر لا يعد سوى تهيئة للأجواء لطرح اسم العميل المقبل، في حال تقرر نهائياً إبعادُ بوتفليقة (وهو الراجح)، الذي سوف يتم ترشيحه عبر جهاز جبهة التحرير، العريقة في فن الالتصاق بالسلطة وتمرير خطابها وكل مخططاتها، بتأييد من كل القوى السياسية والجمعيات الموالية للزمرة النافذة من جميع الأطياف، خصوصاً ما يسمى حالياً أحزاب التحالف الرئاسي. يحدث هذا فيما يبدو في الظاهر من هذه العصبة المنتفعة والمرتبطة بالرئيس أنها على أرض الواقع في صدام مع رئاسة أركان الجيش المسندة منذ 2004م إلى الفريق أحمد قايد صالح، وأنها تسابق الزمنَ من أجل تكريس تمديد العهدة الرابعة أو تأجيل الانتخابات كخيار لمعنى الاستمرارية في المرحلة المقبلة. وفيما يبدو في الظاهر أيضاً أنه غياب شبه تام لرأي المؤسسة العسكرية في المسألة. وحتماً يقع كذلك ضمن هذه التهيئة على وجه التحديد كل ما حدث مؤخراً داخل بيت جبهة التحرير الوطني نفسها وفي البرلمان الجزائري، من تنحية رئيس المجلس الشعبي الوطني السعيد بوحجة بقرار من الرئيس أو مَن يتحدث باسمه من قصر الرئاسة، إلى إبعاد جمال ولد عباس والإتيان بمعاذ بوشارب مكانه أميناً عاماً لها، ثم جعله على رأس كل من البرلمان وهيئةٍ تشرف خلال الفترة المقبلة على تسيير شئونها بعد تجميد كل مؤسساتها مرحلياً وبالأخص المكتب السياسي واللجنة المركزية. وكذا ما قام به هذا الأخيرُ من استدعاء الرموز القديمة من القيادات في الجبهة المذكورة من أمثال عبد العزيز بلخادم وعبد الرحمن بلعياط وعبد الكريم عبادة وغيرهم بغرض تجميعهم وتجنيدهم حول ما سوف يكون خارطة طريق تمثل "إجماعاً" يُملى على الجميع من أعلى الهرم أو تتوافق عليه وتسير بموجبه جميعُ قوى الموالاة بكل أطيافها! وهو ما يعني الاستمرارية للزمرة النافذة، في غياب تام لبوتفليقة عن المشهد، وإعطاء هذه الأخيرة عملياً فسحةً زمنية كفيلة بإخراج السيناريو المعد سلفاً، وإنزاله للتنفيذ من طرف أقطاب هذه الزمرة وفق رؤية أصحاب القرار المرتبطين بالاستعمار للمرحلة القادمة في الجزائر.
والظاهر أن هذا هو ما جاء به رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح من ترتيبات لنقل السلطة على مستوى الرئاسة بعد عودته يوم 06/12/2018م من زيارة دامت ستة أيام لدولتي الإمارات وقطر، محطتي التآمر وهمزتي الوصل بين أصحاب القرار العملاء وأسيادهم الأوروبيين. وهذا هو أيضاً ما يفسر كل ما سبق وأن ما أقدم عليه رئيسُ الأركان من ترتيباتٍ من مثل إبعاد بعض الوجوه البارزة المنافِسة أو الطامحة لمنصب الرئاسة من أمثال المدير العام للشرطة سابقاً وبعض المقربين منه، ومن تغييرات داخل الجيش خصوصاً على مستوى قيادات النواحي العسكرية والدرك وفي وزارة الدفاع، وما قام به من محاسبة شكلية لبعض قياداتِ العسكر التي كانت إلى عهد قريب تبدو قويةً ونافذة على خلفية التورط في الفساد، أي بدواعي ضبط الأمور في الجيش وتطهير المؤسسة العسكرية من الفاسدين وفق معطيات ومتطلبات المرحلة، وربما ليكونوا أيضاً عبرةً لغيرهم!!
وعليه وفي انتظار إعلان المجلس الدستوري استدعاء الهيئة الناخبة أواسط شهر كانون الثاني/يناير 2019م فإن الراجح من السيناريوهات هو أن الانتخابات الرئاسية المقبلة في الجزائر سوف تجري في موعدها أي في شهر 4 من هذه السنة، خلافاً لكل ما يقال وما يشاع. إذ إن من نية أصحاب القرار بتدبير من أسيادهم عدم المرور على عجالة إلى عملية جراحية لتعديل الدستور أو إعادة صياغته في العمق لا عبر استفتاء شعبي ولا عبر البرلمان سوف تكون محرجةً للغاية لو تقررت. كما لن يكون من مخططهم الإقدام على عملية دوسٍ على الدستور في ظرف حساس عنوانه تذمر شعبي على خلفية تداعيات سوء الرعاية على جميع الأصعدة وفساد مستشر في دوائر السلطة ونهب للمال العام وعلى وقع أزمة اقتصاديةٍ تلوح في الأفق إثر هبوط سعر النفط إلى ما دون 55 دولاراً. علماً أن السلطة كانت دوماً وبخاصة منذ أن حل بوتفليقة على رأسها حريصةً على مواعيد الاستحقاقات الانتخابية، حفاظاً على مصداقية زائفةٍ، وعلى استقرار مؤسسات الدولة كما كان يردد الرئيس دائماً!
بل إن من خطة أصحاب القرار على الأرجح المرور بالبلد إلى حقبة جديدة من التبعية سوف تضمن مصالح المستعمِر الغربي لعقود آتية، وذلك بإيهام الجميع أن الجزائر سوف تمر إلى مرحلة جديدة واعدة، ولكن مع المحافظة ولو مرحلياً على رمزية بوتفليقة، ومع تثمين فترة قيادته وتثمين إنجازاته "الكبيرة" خلال عشرين سنة من حكمه تَـحقَّق للشعب فيها الكثيرُ على الصعيد الاقتصادي خاصةً (!)، وعدم لعن مرحلته خلافاً لما كان يحدث مع كل الرؤساء السابقين. ومن أهم تلك الإنجازات أيضاً على وجه التحديد ما تعلق بإرساء السلم والمصالحة وتحقيق الوئام المدني للجزائريين بعد ما سمي فترة "الإرهاب". ولا يستبعد عرض كل ذلك وغيره على الرأي العام والتذكير به لاحقاً في لائحة وسجل الإنجازات في اللحظة المناسبة، أي خلال الحملة الانتخابية لمرشح السلطة المقبل.
ولن يكون من الصعب عندئذ على جميع المتزلفين والمنتفعين والملتصقين بجهاز الحكم وبأقطاب العُصب الملتصقة مصلحياً بالزمرة النافذة المرتبطة بالإنجليز في توافق مع المستعمر القديم فرنسا تبني خطابٍ جديد عنوانه مفارقةٌ عجيبةٌ اسمها "الاستمرارية في مرحلة ما بعد بوتفليقة"!!! وهو ما يعني لدى كل هؤلاء حتماً تبني وهضم تدابير المرحلة القادمة والسير وفق مقتضياتها المتمثلة في تغيير اتجاه البوصلة لمسايرة توجيهاتِ النافذين في أعلى الهرم.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع