يواجه السودان منذ قرابة الأسبوعين موجة احتجاجات شعبية كبيرة، بدأت يوم الأربعاء 19/12/2018م، وذلك في أعقاب تردي الوضع الاقتصادي ومواجهة الناس للغلاء، وصعوبة الحصول على الخبز والوقود، علاوة على الشح في السيولة النقدية بسبب عجز البنوك عن توفيرها. إضافة إلى تفشي البطالة ودخول البلاد في أزمات اقتصادية عنيفة، بسبب الاستجابة لروشتات صندوق النقد الدولي، وتعطيل الإنتاج بالضرائب والجمارك والرسوم الباهظة على الصناعة والزارعة والتجارة، مع سياسات مالية فاشلة أدت إلى التضخم المالي المتعاظم بسبب الترهل في هيكل الحكومة الذي يموَّل بالعجز من خلال طباعة العملة، مع زيادة معدلات الفساد والصرف البذخي للحكومة.
وفي أثناء هذه الاحتجاجات التقى البشير بقيادة الأمن والمخابرات، وقيادة الشرطة بشكل كأنما يرسل فيه رسالة فحواها أنه يميل إلى الحسم العسكري والأمني للاحتجاجات، فقد عقد البشير الاثنين 24/12/2018م اجتماعا بقيادة جهاز الأمن والمخابرات، كما التقى يوم الأحد 30/12/2018م بقادة الشرطة في ضاحية بري شرق الخرطوم حيث قال للحضور: "واجب الشرطة حفظ وأمن المواطن وليس قتله" لافتا إلى أن القتل قصاصا يكون أحيانا فيه ردع للآخرين من أجل الحفاظ على الأمن الذي يمثل سلعة غالية وفق تعبيره. وفي يوم الأحد 23/12/2018م، أعلنت قيادة الجيش السوداني، موقفها من الاحتجاجات بعد 5 أيام من اندلاعها في تعميم نقلته الصحف السودانية والمواقع العالمية، عقب الاجتماع الدوري لقادة القوات المسلحة الذي انعقد ظهر الأحد بوزارة الدفاع وتم فيه تقديم تقرير شامل حول الأحداث الجارية بالبلاد، أكدت القوات المسلحة فيه: "التفافها حول قيادتها، وحرصها على مكتسبات الشعب، وأمن وسلامة المواطن، دمه وعرضه وماله...".
وقد تعاملت الحكومة مع المحتجين بشكل عنيف أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، حيث قال المتحدث باسم الحكومة وزير الإعلام بشارة جمعة إن 19 شخصا لقوا حتفهم خلال الأحداث التي عمت البلاد مؤخرا بينهم نظاميان بينما جرح 406 آخرون بنحو متفاوت، وذكر موقع سودان تريبيون الثلاثاء 1/1/2019م نقلاً عن ناشطين سقوط 40 قتيلاً واعتقال وإصابة 900 آخرين، تم تقديم 26 منهم إلى محاكمات.
وفي محاولة للحد من دعوات التحريض لتنظيم احتجاجات جديدة، قامت السلطات عبر إدارة الدعوة بتهديد عدد من الأئمة؛ فعلى سبيل المثال تم استدعاء الشيخ الدكتور محمد عبد الرحمن من إدارة الدعوة بمحلية جبل أولياء بولاية الخرطوم، ومحاولة الضغط عليه حتى لا يتحدث عن الأوضاع التي تمر بها البلاد إلا أنه أصرَّ وناقش مسؤولي إدارة الدعوة الذين لم يستطيعوا تقديم حجة مقنعة فسلموه لجهاز الأمن الذين قاموا بضربه، حيث تكالب عليه عشرة من زبانية الأمن وضربوه بالسياط الغليظة وركلوه بالأقدام مسببين له الأذى الجسيم، حتى يقر بشرطين أولهما: ألا يُصلي إماماً، وثانيهما: أن يحضر لمباني الجهاز مرة أخرى يوم الجمعة، إلا أنه رفض الانصياع لشرطَيهم، وبعد أن رأوا ثباته أطلقوا سراحه، وقد صلَّى الجمعة بالناس إماماً، وعندما عرض الأمر للمصلين انفعلوا غاضبين مؤيدين لموقفه معاهدين بأن يكون هو إمامهم وأنهم لا يريدون إماماً غيره.
وقد أعلنت الحكومة فرض حالة الطوارئ في ولايات القضارف والنيل الأبيض ومدن دنقلا وبربر وعطبرة بالولاية الشمالية، وتعيش 9 ولايات من جملة ولايات البلاد الـ18 حالة طوارئ، وهي ولايات دارفور الخمس، وولايات جنوب كردفان والنيل الأزرق، وكسلا وشمال كردفان. وقد قامت الحكومة بقطع خدمة شبكة النت، خاصة مواقع التواصل مثل الفيس بوك، وتويتر، والواتساب..إلخ، وأغلقت الحكومة المدارس إلى أجل غير مسمى.
وفي ظل هذه الأوضاع الكارثية يواصل البشير سياسة الكذب والنفاق وتلفيق الحقائق ووصم المحتجين على الغلاء الطاحن بالعملاء والمارقين، مع محاولته إظهار أن الشعب مستكين لا يكل ولا يمل، وقد ظهر ذلك في كلمته بالذكرى الـ63 لما يسمى بالاستقلال التي ألقاها من القصر الرئاسي مساء الاثنين 31 كانون الأول/ديسمبر 2018م: "إن البلاد تمر بظروف اقتصادية ضاغطة، أضرت بشريحةٍ واسعةٍ من مجتمعنا، لأسباب خارجية وداخلية". وأضاف "ونحن إذ نقدر هذه المعاناة ونحس بوقعها، ونشكر شعبنا على صبره الجميل، فإننا على ثقة بأننا نوشك على تجاوز هذه المرحلة الصعبة والعابرة"، وأكد أن "كل مؤسسات الدولة، وضعت خارطة الطريق للخروج من هذه الأزمة، باستراتيجية تعتمد على الإنتاج والإنتاجية". كأنَّ البشير لا يدرك أن الواقع قد تغير وأن الأمة أصبحت واعية ومدركة لما يدور داخلياً وخارجياً وأنه ما عاد النفاق الذي يمارسه نظامه وتغيير الحقائق يضلل أحداً إلا بعض السذج المرتبطين ارتباطاً منفعياً بنظامه.
إنه لمن المؤسف والمحزن أن يقف الناس صفوفاً للحصول على لقمة العيش في بلد مثل السودان، يعتبر سلة غذاء العالم،وإنه لمن المحزن أن يواجه أكثر من نصف الشعب فقراً مدقعاً، والسبب سياسات الدولة التي أفقرت السودان بسياسات فاشلة، اتباعاً لسياسات المستعمرين وتمكيناً لمؤسساتهم المالية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وأكبر دليل على ذلك ميزانية العام 2018م التي زادت فيها الدولة الجمارك والضرائب على الرعية، فازدادت أسعار السلع والمنتجات بشكل فاحش، وانهار الجنيه أمام العملات الأخرى بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ السودان حيث بلغ سعر صرف الجنيه قرابة الـ90 جنيهاً مقابل الدولار ثم عاد للنزول مرة أخرى.
السودان بلاد حباها الله تعالى بخيرات عظيمة؛ أراض خصبة شاسعة وأنهار عذبة تجري تقريباً في معظمه، مع الثروات المائية والحيوانية والمعدنية حيث ينتج السودان البترول والذهب والحديد والإسفلت والكوبالت والزنك، وحتى اليورانيوم. بلد غني ثري، لولا عمالة حكامه ورهنهم البلاد للكفار المستعمرين الذي سرقوا هذه الثروات ونهبوها لمصالحهم ولم يعطوا أهل البلد منها إلا الضنك والفقر والمشقة والعناء، إذن مشكلة السودان هي مشكلة نظام يحمل بذرة فشله في أحشائه لأنه يجعل السيادة للبشر وليس لرب البشر، وهذا السبب هو الأساس للكوارث التي يمر بها السودان حيث تطبيق النظام الديمقراطي الجمهوري العلماني أس الداء وسبب البلاء، فعلى أهل السودان الكرام، أن يواصلوا ثورتهم المباركة ولكن بوعيٍ وإدراك، فلا يسمحوا للمخادعين من المستعمرين وعملائهم، بخداعهم وسرقة ثورتهم، بتغيير وجه عميل والإتيان بعميل آخر، أو توفير الخبز مع الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وإنما ثورة لإقامة شريعة رب العالمين، عبر إقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، لتقوم بواجبها في خير البلاد ورعاية شؤون العباد.
بقلم: الأستاذ محمد جامع (أبو أيمن)
مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع