من البدهي القول إن الكثير من النزاعات السياسية الحاصلة في العالم الثالث والتي تأخذ مظهرا عسكريا هي في الغالب لا تشتعل من الداخل، بل تبدأ وتنشأ بفعل تدخلات الدول الاستعمارية، فتقوم هذه القوى الكبرى بإشعالها، بعد أن تدفع بأطراف محلية للعب الدور - في ظاهر الأمر - في الوقت الذي تقوم فيه القوى الكبرى الاستعمارية بتعميق الأزمة وتعقيد المشهد عبر مجموعة من العروضات والتدخلات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وهذا يظهر جلياً في مسار الأحداث التي تكتنف هذه الأزمات، وغالباً ما يكون تحت ذريعة وعنوان "البحث عن حلول".
وتمارس الدول الكبرى الاستعمارية هذه العملية إما بواسطة الأمم المتحدة أو عن طريق الدس عبر مندوبيها لدى الأطراف المحلية، في ممارسة خبيثة لقاعدة "فرق تسد". عبر هذه الوسائط تعمل على خلق الظروف المناسبة لمزيد من التدهور وانفلات الأمور.
في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين أصبحت منظمة الأمم المتحدة "الوكيل العام للدول الاستعمارية" هي من يقوم بهذا الدور نيابة عن القوى الدولية، وقد كان هذا واضحاً في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا وليبيا، فبعثة الأمم المتحدة في ليبيا منذ سنة 2012 بعد القضاء على القذافي وشخوص نظامه، كلما قارب الناس والقوى المحلية من الوصول إلى خطوات جادة لحل أزمة البلاد نجد بعثة الأمم المتحدة بتدخلها تطرح عناصر جديدة تقود إلى احتدام الصراع من جديد وفشل خطوات الحل، كما صرح بذلك عضو البرلمان عبد السلام نصية وأيضا ما صرح به عضو المجلس الأعلى للدولة عبد القادر حويلي صراحة متهمين بعثة الأمم المتحدة بأنها هي من يؤخر الحلول، وهي من يعيق تفاهم الليبيين مع بعضهم البعض، بل غسان سلامة كسابقيه يتجنب وبإصرار الاتصال مع بعض القوى الحقيقية الفاعلة في البلاد من أجل الحل، لأنها ليست منصاعة لما يريده الغرب، ويتواصل مع مجاميع لا أثر لها وليس لها من دور سوى حب الظهور.
ولذلك نراه يعمل على تهميش وعزل القوى المخلصة وإهمالها وبالتالي هي بحكم دفاعها عن نفسها بعد أن تجد نفسها مستهدفة هي - وهكذا أريد لها – معرقلة للحل الذي يدّعيه غسان سلامة، ومن هنا يحصل المزيد من التدهور والمزيد من التمديد في عمر الأزمة، وهو المقصود. وقد كان هذا واضحاً جلياً في قرار مجلس الأمن الذي وصف بعض هذه القيادات بالمعرقلة للحل وبأنه أوصى بمصادرة أموالها في الغرب، وأنها سوف تتعرض لعقوبات، مع تصريحها الواضح بأنها لا تملك مالاً في الغرب رغم أن ما قامت به في الأشهر السابقة كان بغرض إزاحة من هم مسيطرون على مصالح الناس في العاصمة طرابلس تحت شعار "تنظيف طرابلس" من المليشيات العابثة بمصالح الناس، في الوقت الذي لا نرى ولم نسمع لبعثة الأمم المتحدة ولا لمجلس الأمن أي موقف ولا أية عقوبة على حفتر وأركان حربه التي دمرت البشر والحجر والشجر في بنغازي ودرنة ظلما وإجراما.
فبعثة الأمم المتحدة منذ إرسالها في سنة 2012 إلى ليبيا لم تقم بأي عمل جاد من أجل الحل في ليبيا حقيقةً. وإنما فوق كل ما تقدم هي عبء ثقيل على كاهل الشعب في ليبيا؛ إذ إن كل ما تستنزفه من مال يقتطع من الأموال الليبية المجمدة.
ولا يغيب عن أذهاننا أن الأزمة الليبية بعد انهيار النظام السابق انتقلت "دوليا" من طور إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، فقد بدأ هذا التنقل مع المجلس الانتقالي في سنة 2012 بمسار المصالحة مع بعض رموز النظام السابق مع الوفد الذي أرسله مصطفى عبد الجليل إلى مصر برئاسة علي الصلابي للقاء ومحاورة أحمد قذاف الدم أحد رموز النظام السابق، ثم اللقاءات التي تمت في مصر مع حفتر ومعاونيه في عملية "الكرامة".
وبدأت الأطراف الإقليمية والدولية تسير بالأزمة الليبية في مسارات جديدة حيناً في القاهرة وأخرى في تونس ثم في المغرب والتي نتج عنها وثيقة الصخيرات "المشؤومة" والتي كانت سبيلا وإطاراً لزيادة التأزيم.
وبعد الفشل المريع لوثيقة الصخيرات جاء اجتماع باريس والذي أرادت منه فرنسا التمكن من الهيمنة على سير الأحداث في ليبيا ولم تنجح في شيء من ذلك.
وبحكم الصراع الدائر بين فرنسا وإيطاليا على تمكين كل منهما لمصالحه في ليبيا سعت إيطاليا لمؤتمر مماثل لمؤتمر باريس فكان مؤتمر "باليرمو".
ورغم ما يبدو واضحاً من فشل مؤتمر باليرمو في إحداث أي تقدم على مستوى الحلول للأزمة، غير أنه حقق لإيطاليا دوراً بارزاً في التعامل مع الأزمة الليبية، واستطاعت أن تفرض على الأوروبيين مجتمعين الاعتراف لها بالانفراد والسيادة على المياه المحاذية للشواطئ الليبية مستغلة انهماك الفرنسيين في معالجة أوضاعهم الداخلية.
وبالمحصلة فإن الصراع على ليبيا هو المعرقل لأي حل يمكن السير فيه في ليبيا، وما تقوم به الأمم المتحدة لا يزيد عن كونه عملاً لإدارة هذا الصراع ومنع الحل الجاد للأزمة.
فقد خرج علينا غسان سلامة بعد فشل كل ما سبق بمشروع "المؤتمر الوطني الجامع" بعد أن سوق له جامعا لكل الأطراف المحلية ثم سوق له دوليا، والآن تراه يتراجع وينتكس ويقول هو لقاء حواري من الطبيعي أن يكون الرأي فيه غير ملزم، إذاً ما الفائدة منه؟ هو مجرد ألهية لمزيد من الوقت لتتأكد لنا مقولة إن الأمم المتحدة مهمتها إطالة الأزمات وليس اجتراح الحلول. ولم يتغير هذا الدور وهذه المهمة وهي واضحة للعيان في القضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية، وأفغانستان، والعراق، وليبيا، واليمن، وسوريا... وهي ليست إلا جزءا من برامج الدول الغربية الاستعمارية لتمكينهم من السيطرة على البلاد واستعمارها من جديد.
وخلاصة القول: هذا هو دور الأمم المتحدة في العبث بقضايا الشعوب ومنه دورها في ليبيا، وإعطاء المزيد من الوقت لتفاعل أسباب التدهور في البلاد وانتشار الفوضى من أجل تعميق الأزمة وتعميق حالة الإنهاك الكلي للبلاد حتى يسهل الإمساك والسيطرة على البلاد من طرف القوى الكبرى بانعدام القدرة على التصدي والمقاومة لدى أهل البلاد.
إن العمل الصحيح هو الانفصال عن أي مسعى للأمم المتحدة وعدم الخضوع لتأثيراتها والاستجابة لإملاءاتها، بل يجب على المخلصين العمل على طرد مندوبيها من البلاد والطلب منهم الرحيل، وهو عمل ميسور وفي حدود الإمكانات، وإزالة كل ما وضعته البعثة من ترتيبات وعلى رأسها حكومة الصخيرات، والاجتماع على رأي واحد والسير فيه والامتثال لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
بقلم: الأستاذ أحمد المهذب
رأيك في الموضوع