أحدَثَ القرار المُفاجئ للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا عاصفةً سياسيةً هوجاء، اجتاحت عواصم صنع القرار الدولية والإقليمية، كما اجتاحت البيت الأبيض نفسه، وتسبّبت في إخراج وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس من منصبه، وأدّى هذا القرار أيضا إلى التباس مُربك في المشهد السياسي في سوريا، وألقى عليه ظلالاً سياسية غامضة، فزاده تعقيداً فوق تعقيد، وقد نقلت صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية عن مصدر مطلع لم تذكر اسمه، وصف القرار بأنّه "خطوة قد تؤدي إلى زعزعة الاستراتيجية الأمريكية بالشرق الأوسط".
وكانترامب قد أعلن يوم الأربعاء الماضي 19/12/2018 رسمياً بدء انسحاب القوات الأمريكية من سوريا بحجة إكمال تصفية تنظيم الدولة فقال: "ألحقنا الهزيمة بتنظيم داعش في سوريا الذي كان السبب الوحيد لوجودنا هناك"، وسيتم سحب هذه القوات في غضون مائة يوم على الأكثر وفقاً لتصريحات البنتاغون.
ولدى أمريكا حوالي 2000 جندي في سوريا يقومون بتدريب وتسليح قوات محلية مرتزقة، يُطلق عليها وحدات حماية الشعب، وقوات سوريا الديمقراطية لمُحاربة تنظيم الدولة، كما وأقامت أمريكا عشرات القواعد العسكرية شرق الفرات، ويقول مسؤول أمني روسي: "إنّ الولايات المتحدة أقامت نحو عشرين قاعدة عسكرية في سوريا على أراض خاضعة لسيطرة الأكراد".
والغريب أنّ أمريكا كانت ولفترة قريبة تُدعّم وتُركّز قواتها في سوريا، فقبل يومين فقط من هذا القرار، وفي 17/12 أعلن المُوفد الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري في واشنطن أنّ "بلاده باقية حتى إلحاق الهزيمة بداعش، والحد من نفوذ إيران"،ثم أمَرَت الإدارةُ الأمريكية السعودية الشهر الماضي بدفع 100 مليون دولار لتمويل مهام قواتها شرقي الفرات، وقال جوزيف دانفورد رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة قبل أيام: "إنّ الولايات المتحدة بحاجة لتدريب آلاف المقاتلين المحليين لضمان هزيمة دائمة للمجموعة الإرهابية".
وفجأةً تغيّرت الأحوال، فالحاجة لتدريب القوات ما عادت قائمة، وما كان يُقال عن ضرورة بقاء القوات الأمريكية إلى حين طرد الإيرانيين من سوريا لم تعد ضرورة، فقد اختلفت اللغة السياسية الأمريكية، وتبدّلت بين عشيةٍ وضحاها.
تُرى فما سبب هذا التغيّر في الموقف الأمريكي بهذه السرعة؟ ولماذا لم تعد هناك حاجة لوجود القوات الأمريكية في سوريا مع أنّ الأمور على الأرض لم تتغيّر؟ وما الذي جدّ لاتخاذ هذا القرار المُفاجئ بخروج القوات الأمريكية في غضون شهرين أو ثلاثة على أقصى تقدير؟
فكيف يُصنع القرار الأمريكي؟ ومن الذي يصنعه؟ هل هو الرئيس؟ أم البنتاغون؟ أم الدولة العميقة؟
وللإجابة على هذه التساؤلات لا بدّ من مُلاحظة المُستجدات السياسية التي سبقت اتخاذ القرار، ثمّ ملاحظة المُستجدات التي صاحبته، ثمّ المُستجدات التي تلته، وبالذات ما لها علاقة بتركيا، لا سيما وأنّ تركيا لعبت أهم وأخطر الأدوار في احتواء الثورة، وفي تدجين جبهة النصرة وشبيهاتها، وأنّها ما زالت تملك أهم الأوراق في التعامل مع الشمال السوري، وشرق الفرات.
لقد سبق هذه الخطوة الأمريكية المُفاجئةحديث مُفاجئ لأردوغان عن عملية عسكرية تركية وشيكة شرق الفرات، فقال: "يمكننا أن نبدأ عملياتنا في الأراضي السورية في أي وقت وفقاً لخطتنا الخاصة، والدخول إلى أراضيها من المناطق التي نراها مناسبة على طول الخط الحدودي الذي يمتد لمسافة 500 كيلومتر، وبشكل لا يلحق ضرراً بالجنود الأمريكيين"، ووجّه أردوغان لأمريكا كلاماً صريحاً يُشتمّ منه معرفته بالموقف الأمريكي بشكلٍ مُسبق فقال: "لكوننا شركاء استراتيجيين مع الولايات المتحدة فينبغي على واشنطن أن تقوم بما يلزم، والآن جاء الدور على شرق الفرات".
وكانت المكالمة التلفونية بين أردوغان وترامب ظاهر فيها الاتفاق على إعطاء دور جديد لتركيا في شرق الفرات، فخرج بعدها أردوغان إلى وسائل الإعلام مُفاخراً بأنّ الجيش التركي جاهز "لمُحاربة الإرهابيين من داعش ومن وحدات حماية الشعب"، وأنّه على أهبة الاستعداد للقيام بذلك، لكنّه قال: "إن مكالمته الهاتفية مع ترامب واتصالات الأجهزة الدبلوماسية والأمنية فضلا عن التصريحات الأمريكية دفعت تركيا إلى التريث لفترة عدة أشهر، ولكنها لن تكون مفتوحة"، فكأنّ أردوغان طُلب منه أنْ ينتظر ريثما يتم إخلاء الأمريكيين من مواقعهم ليبدأ بالعمل العسكري.
وليس مُصادفةً أنْ تتزامن هذه الأحداث مع إعلان وزارة الخارجية الأمريكية في اليوم نفسه عن صفقة لبيع تركيا منظومة (باتريوت) للدفاع الجوي والصاروخي بقيمة 3.5 مليار دولار.
فالمسألة إذاً بدأت تتضح أكثر فأكثر، والصورة باتت معالمها تتكامل، فأمريكا قد حسمت أمرها بترك الأمور في شمال سوريا لتركيا على حساب الأكراد، لأنّها رأت أنّها الأقدر على موازنة الروس والإيرانيين في سوريا، فضلاً عن تقليص كلفة نفقات التدخل الأمريكي المُباشر في الخارج، لذلك أدرك الأكراد خطورة قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا، فكان له وقع الصدمة على قياداتهمالمُتعاونة مع الأمريكيين والتي وصفت القرار بـ"الخيانة والطعن بالظهر".
فقرار الانسحاب من سوريا الذي تبنّاه ترامب تمّ ترجيحه من قبل المُتنفذين في الإدارة الأمريكية، وتمّ حسم الجدال الذي كان دائراً منذ مُدة في أروقة البيت الأبيض والبنتاغون حول البقاء أو الانسحاب من سوريا، فكان الانسحاب هو الأفضل للمصالح الأمريكية التي يُمكن حمايتها عن طريق وكلاء أمريكا في سوريا، ولا حاجة للتدخل المُباشر.
وشكّل هذا القرار صفعةً للأوروبيين لا سيما الإنجليز والفرنسيين الذين لهم جنود على الأرض إلى جانب الجنود الأمريكيين في سوريا، فقالت بريطانيا إنّ خطر (الإرهابيين) ما زال قائماً في سوريا، ولم يتم بعد القضاء على تنظيم الدولة كما قال ترامب، وأمّا الفرنسيون فأجبروا على البدء في تفكيك قواعدهم انصياعاً للقرار الأمريكي، بعد أنّ عاجلتهم أمريكا يوم الجمعة ببدء تفكيك مُنشآتها العسكرية القريبة من الحدود التركية.
فقرار الانسحاب إذاً هو قرارٌ جدّي، وقد اتُخذ، وابتُدئ بتنفيذه،وردّ ترامب على مُعارضي قراره، ومنهم السيناتور الجمهوري ليندسي غراهامبالقول: "من الصعب التصديق أن غراهام، سيكون ضد الحفاظ على أرواح الجنود والحفاظ على مليارات الدولارات"، وأضاف متسائلا: "لماذا نحارب بالنيابة عن أعدائنا في سوريا بالبقاء، وقتال داعش من أجلهم، روسيا وإيران وغيرهما من السكان المحليين؟".
رأيك في الموضوع