إن الفساد المستشري فيأعلى هرم السلطة في الجزائر الذي يتحدث عنه الإعلام هذه الأيام، والضالع فيه كثيرٌ من رموز السلطة والأفراد المؤثرين داخل العُصب النافذة، والمتمثل أساساً في سرقة ونهب المال العام بشتى الطرق والأساليب ومنها خاصةً الاستيراد المقنّع لكل السلع والبضائع في مختلف القطاعات تحت اسم الاستثمار والمشاريع الاقتصادية والشراكة مع الخارج، وعبر تهريب العملة الصعبة من خلال الارتشاء في الصفقات المشبوهة، والمتاجرة في المخدرات والسلاح، خدمةً للمصالح الشخصية لأفراد هذه العصب النافذة وخدمةً لأجندات المستعمر الأوروبي (محلياً وإقليمياً ودولياً)... كل ذلك الفساد لا يمثل في الحقيقة سوى جانب واحد من أنواع الفساد في الجزائر!! فهنالك في واقع الأمر تداعيات ونتائج ستة عقود من الإخفاق الشامل في تسيير الشأن العام بل الفشل التام المبرمج عبر تكريس الرداءة ونشر الفساد على جميع المستويات وفي جميع نواحي المجتمع، أبرزها منظومة التعليم والصحة والقضاء والإدارة. وهو ما أوقع البلاد في حالة غريبة من الاحتقان والانسداد وأوصلها إلى حالة مزرية من التردي والضياع جعلت شباب الأمة في الجزائر يركبون قوارب الموت هروباً مما آلت إليه أوضاع البلاد، رغم شساعة أراضيها وتنوع ثرواتها!!
هذا الفساد بجميع أصنافه وألوانه الذي استشرى بشكل مزمن في كل مفاصل الدولة والذي أوصل منظومة الحكم في البلاد إلى حالة متقدمةٍ من التعفن والإفلاس، يُبرز في حقيقة الأمر حالةَ الإخفاق في الرعاية وهشاشة النظام العلماني المتسلط، بل فشل الدولة الوطنية التي أنشأها المستعمرُ على مقاسه، والقائمةِ على نظام متهرئ فاسدٍ يخدم مصالح الأجنبي بدل مصالح أهل البلاد المسلمين.
ولكن الجديد هذه الأيام هو استفحال الصراع داخل جناح الإنجليز نفسه الذي يمسك بالسلطة من خلال مؤسسة الرئاسة وهيئة أركان الجيش وجبهة التحرير الوطني إلى الحد الذي نشهده الآن من خلال الأحداث والوقائع الجارية، وذلك بغرض التموقع في المرحلة المقبلة على مقربة من موعد الانتخابات الرئاسية في شهر نيسان/أبريل 2019م.
فكل أشكال الصراع وما نجم عنه مؤخراً من إقالات وتغييرات وتعيينات تُستصدر لأصحابها من الرئاسة في غياب الرئيس في قيادات الجيش والدرك وأسلاك الأمن والقضاء والجمارك وحتى في البنوك والإدارة، مما لا زلنا نشهده، إنما هو مندرج ضمن هذا السياق، تحضيراً لإعلان الترشح وبدء حملة انتخابية سوف تجري في الغالب - إن تقرر التمديد لبوتفليقة - على الطريقة الفلكلورية التي سيغيب عنها الرئيس تماماً كما جرى في عملية تمرير العهدة الرابعة في نيسان/أبريل 2014م)، وستُـبرَز خلالها "إنجازاتُ الرئيس" منذ مجيئه في 1999م إلى اليوم، كآخر مرحلة من مراحل تسويق التمديد وتكريس الاستمرارية للعصبة النافذة إلى أجل غير معلوم، بمباركة زبانية الداخل وقبولٍ دوليٍ من الخارج. وذلك في غياب وعي سياسي فاعل يفرض التغييرَ في البلد أو يأتي بمن ينظر حقيقةً في مصالح أهل البلاد بدل مصالح العصب المتناحرة خدمةً وتنفيذاً لأجندات المستعمر. يذكر أن قائد أركان الجيش أحمد قائد صالح الذي هو الآن عملياً وزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة (بحكم غياب الرئيس) كان سعى منذ مرض الرئيس بوتفليقة في شهر 4/2013م، لتعزيز موقعه وسلطته بوضع رجاله في المواقع المهمة والمراكز الحساسة في الدولة، كقادة النواحي العسكرية والوحدات القتالية مثلاً، على أساس الولاء للزمرة النافذة والجهوية، بدعم وتدبير من الخارج.
فمن مراقبة الوضع وتتبع مجريات الأحداث وخاصةً تداعيات إقالة عبد الغني هامل المدير العام للشرطة الذي هو أصلاً من زمرة الرئيس والمقرب من الرئاسة، والذي أُبعد قبل أيام عقب قصة شحنة الكوكايين، وكذلك إنهاء مهام قائد الدرك الوطني مناد نوبة. ثم تغيير موقع الجنرال بن بيشة المقرب من رئيس الأركان من مسئول مكتب الخدمة الوطنية على مستوى القطر إلى مسئول مكتب مستخدمي وموظفي الجيش، وهو منصب إداري مهم في وزارة الدفاع يُتحكم من خلاله في التوظيف أي في التعيينات والترقيات داخل مؤسسة الجيش... إلى غير ذلك من الإقالات والتعيينات، والقائمة لا تزال مفتوحة! من كل ذلك يتبين أن الترتيبات الحالية إنما تجري استعداداً لمرحلة فرض منطق الاستمرارية التي ترفض جبهة التحرير الوطني تسميتَها عهدة خامسةً للرئيس، وذلك بموجب الدستور الجديد المعمول به حالياً، والذي أُقر قبل فترة عبر استفتاء في البرلمان! في انتظار ما سوف يكشفه جمال ولد عباس أمين عام جبهة التحرير أي حزب الرئيس ضمن قائمته الطويلة لـ"إنجازات" بوتفليقة منذ مجيئه على رأس السلطة، والتي يراد منها تبريرُ بل تفسير أين ذهب أزيد من ألف مليار دولار من النفقات، ولكن أيضاً تذكيرُ الشعب بـ"أفضال" بوتفليقة عليه.
فقيادة أركان الجيش بجميع أجهزتها وخاصة القوات البرية والدرك ومخابرات الجيش، والتي هي في الحقيقة الطرف الأقوى في المؤسسة الحاكمة في البلاد منذ (استقلالها) عن فرنسا في 1962م، والتي تمثل الآن بطبيعة منطق الصراع الجهةَ النافذة ضمن جناح الإنجليز المتحكم في دواليب السلطة، وخاصةً في حالة الشغور غير المعلن على مستوى الرئاسة بسبب مرض وغياب الرئيس منذ 2013م... تريد أن تكون لها اليد العليا في فرض من سيكون رئيساً في المرحلة المقبلة، وبالتالي في تحديد مستقبل البلاد. وذلك بإبعاد كل من له طموح خارج إرادتها في خلافة بوتفليقة في حال تقرر إبعادُه أو تغييره نظراً لحالته الصحية واعتباراتٍ أخرى، وذلك بقرار وترتيب من الأوروبيين، وهو ما لم يُعرف بعد حتى على أعلى مستوى في الوسط السياسي في البلاد، ولكن أيضاً باسترضاء وطمأنة أمريكا على مصالحها في الجزائر، خاصةً تلك التي في جنوب البلاد.
الحقيقة المرة هي أن الجزائر كغيرها من البلاد الإسلامية تحكمها أجهزة سرية مرتبطة بالمستعمر الغربي. أما في الواجهة فتحكمها قرابة عقدين من الزمن عصبةُ بوتفليقة الفاسدة المفسدة المرتبطة بالقوى الخارجية، والتي استطاعت باتفاق مع مؤسسة الجيش وتحديداً منذ أن وُضع أحمد قايد صالح على رأس هذه الهيئة في شهر 8/ 2004م بقرار من بوتفليقة، استطاعت هذه العصبة أن تفرض نفسَها بدعم من المستعمر وأن تُحكِم القبضة على الجيش وتسيطر على كل مفاصل الدولة وأن تضع يدها على كل خيرات وثروات البلاد خاصةً الغاز والنفط، التي هي المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية، بنسبة تربو على 95%. كما استطاعت أن تحقق للعدو الكافر المستعمر ثقافياً واقتصادياً وسياسياً ما لم يقدر عليه هو بنفسه على جميع المستويات وفي جميع القطاعات. كل ذلك في توافق مع الجناح التابع لفرنسا الضالع هو الآخر في كل أنواع الفساد والمنكرات والكيد لأهل البلاد، والذي هو في هذه المرحلة أضعف من أن يصارع على أعلى المستويات أو يُسمع له صوت، وهو يحاول باستماتة وثبات أن يحافظ على مواقعه ومصالحه ليس أكثر.
ولكن الكارثة الحقيقية لا تكمن فيما تقترفه هذه الزمرُ النافذة من منكر وفساد في طول البلاد وعرضها فحسب، بل فيما يبدو من أبناء الشعب المسلم في الجزائر سكوناً وسكوتاً وقعوداً عن العمل لتغيير المنكر، كما يوجب الإسلام. فالشريعة الإسلامية تفرض على المسلمين أن يكون حاكمُهم منهم، وأن يحكمهم بأحكامها في جميع شئون حياتهم، وهو ما يحقق الرفعةَ في الدنيا والفوز عند الله في الآخرة. كما أن القضية في الحقيقة هي أكبر بكثير من نهبٍ للخيرات وتصارع على الثروات، بل هي منكر تعطيل الشريعة بإبعاد الإسلام عن الحكم وتسليم البلد مجدداً للكافر المستعمر على يد هذه الزمر الفاسدة العميلة التي تعبث بمصير أهل الجزائر، هذا المنكر الذي تجب إزالته. إن ما يحقق العزة والقوة والنماء وكل أصناف الخير لأهل الجزائر وللمسلمين جميعاً إنما هو حصراً دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فهي البديل الحقيقي الذي يوقف جميع هذه المآسي.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع