(الجزء الأول)
لقد بات الكثيرون يدركون أن أرض الحشد والرباط (الأردن) أصبحت ساحة ومحل صراع بين استعمار عجوز واستعمار جديد، يملك وسائل الضغط لفرض إملاءات جديدة من خلال صندوق النقد الدولي وشروطه بالتضييق على الناس وحياتهم وقوتهم، ومما زاد الأمر ضغثاً على إبالة خضوع الفاسدين المفسدين الذين يتربعون على كراسيهم وينفذون ما يملى عليهم وهم سائرون بغيّهم وماضون في سرقاتهم، ويخفون حقيقة الأزمة؛ فيظهرونها على أنها أزمة اقتصادية مادية، في حين هي أزمة سياسية بامتياز سببها الأهم تبعيتهم للمستعمر، يخوضونها كأدوات للصراع على أرضنا على حساب لقمة عيش الناس، وكرامتهم لصالح الغرب الكافر حفاظاً على نفوذه وطمعاً بالبقاء على كرسي معوج القوائم.
ولتتضح الصورة على حقيقتها لا بد ابتداءً من استحضار أمور عدة:
أولاً: الأردن نشأ مجزوءًا عن محيطه ككيان وظيفي؛ رُسِمت حدوده ضمن تقسيم بلاد المسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية، فأصبح حال كيان الأردن كحال باقي البلاد الإسلامية المقسمة، حيث أنيطت بكل كيان وظيفة وأعمال تخدم الغرب الكافر المستعمر، وأصبحت بلاد المسلمين نهبا لكل طامع.
ثانياً: بعد أن هدمت دولة الخلافة كانت بريطانيا سيدة الموقف ومن خلفها أوروبا، وهي صاحبة النفوذ في بلاد المسلمين.
ثالثاً: بعد خروج أمريكا منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية خرجت قوة عظمى، وأصبحت تنازع أوروبا وبريطانيا على نفوذها، وبدأت تقتعد مكانتها في الموقف الدولي، ومن ثم خاضت أمريكا الصراع مع الاتحاد السوفيتي إلى أن انتهى هذا الصراع إلى سياسة الوفاق، عندها تفرغت أمريكا للاتحاد الأوروبي، وعملت جاهدة على محاصرة نفوذهم في العالم، وإزالته من الشرق الأوسط الذي كان متمثلاً بمستعمراتهم، ضمن مشروعها الذي أطلق عليه حينها مشروع آيزنهاور.
حيث كانت بريطانيا صاحبة الحظ الأوفر في هذا النفوذ، فقامت أمريكا بوضع العديد من الخطط والاستراتيجيات لأجل تحقيق هذا الهدف، فبدأت بمشروعها هذا منذ خمسينات القرن المنصرم بأخذها مصر من الإنجليز، ثم عن طريق مصر دخلت بقوة لخلع النفوذ الأوروبي من سوريا، واستطاعت بعد ذلك الدخول إلى إيران عن طريق ثورة الخميني ثم إلى الخليج، وكانت لها محاولات ضخمة وعديدة قبل ذلك لأخذ الأردن؛ حيث استطاعت استمالة الملك عبد الله الأول والذي تمت تصفيته في المسجد الأقصى بعد انكشاف ذلك لبريطانيا عن طريق عملائها في العراق، حيث حاول استمالتهم إلى المشروع الأمريكي.
رابعاً: يتبين بعد هذه الأحداث التي ذُكِرت بشكل مقتضب أن الصراع ومحاولة أخذ النفوذ في الأردن من الإنجليز ليس وليد اللحظة لدى الأمريكان، فقد قبلت أمريكا ذلك الدور الوظيفي الذي يقوم به الأردن لخدمة مصالحها بعد قبول بريطانيا مسايرة أمريكا وعدم مواجهتها وخوض صراع معها في العلن، حيث لجأت بريطانيا إلى الدسائس وعرقلة خطط أمريكا بالخفاء بسبب ما اعترى بريطانيا من ضعف مُنيت به، فأصبح شغل بريطانيا الشاغل هو المحافظة على وجود عملائها وتمكينهم أمام البلدوزر الأمريكي، فجعلت بريطانيا عملاءها يسيرون في خدمة السياسة الأمريكية لتحاول عرقلة وتأخير مشاريع وخطط أمريكا في المنطقة، وبقي الأردن على هذه الحال من التجاذب بين قوى الاستعمار منذ عقود حتى هذه اللحظة.
فما كان من أمريكا إلا ممارسة الضغوط على الأردن بهدوء ودون تعجل من خلال أدواتها الرأسمالية كالبنك الدولي والمساعدات المشروطة، إذ كان من هذه الشروط التي طولب النظام في الأردن بالقيام بها إجراء إصلاحات سياسية وإدارية كثيرة وهيكلات في كافة أجهزة الحكم؛ كالعمل على ترسيخ الملكية الدستورية وحكومة برلمانية. وكان النظام في الأردن يتقدم خطوة بهذا الاتجاه عندما يزداد الضغط عليه، وما إن يستطيع التملص من هذا الضغط يتراجع عشر خطوات إلى الخلف مستغلاً بذلك إدراكه حاجة الغرب إليه كنظام وظيفي صاحب أكبر حدود مع كيان يهود، فهو يدرك أن أمن كيان يهود والمحافظة عليه وعلى وجوده أولوية لدى الغرب مجتمعاً، وأن أمن كيان يهود كان من أهم الوظائف الموكلة إليه. كما كان يعتمد النظام الأردني أيضاً في خضم هذه الضغوطات على دعم السعودية عندما كانت تابعة للإنجليز في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، إذ كانت بمثابة الرئة التي يتنفس منها النظام الأردني، فكان يحصل على كثير من المساعدات المالية والدعم السياسي لتساعد النظام في الأردن للخروج والتملص من الضغوط الأمريكية.
ولكن أمريكا في هذه الفترة بقيت تعمل لإيجاد أتباع لها في كثير من الأوساط في الأردن، من خلال المساعدات العسكرية والمؤسسات التي ترعى المشاريع مثل (USAID) ومن خلال تحرك سفرائها بِحُرّية على أرض الأردن، وأبرز ما لفت الأنظار هو تحرك السفيرة الأمريكية السابقة ذائعة الصيت آليس ويلز التي جابت البلاد بطولها وعرضها.
خامساً: بعد هدوء موجة الربيع العربي، وانخفاض مستوى الخطر على نفوذ أمريكا نسبيا في سوريا، وتحول تبعية السعودية أيضاً لأمريكا بمجيء الملك سلمان بن عبد العزيز، أدرك النظام في الأردن حجم الخطر الذي يحيق به؛ فازدادت الضغوط الأمريكية عليه من خلال المطالبة بالإصلاحات، فلجأ النظام لإجراء تعديلات دستورية توسع نفوذ الملك وصلاحياته دستورياً، ليصبح بعد ذلك منصب رئيس الوزراء في الأردن منزوع الدسم لا يملك من أمره شيئاً، فتم تجريده من صلاحياته الدستورية لتكون كلها بيد الملك، حينها أدركت أمريكا مدى التلاعب الذي يمارسه النظام في الأردن ومن خلفه الإنجليز، وازدادت نقمة الأمريكان على النظام حيث وضعوه تحت ضغوط ضخمة في المسألة الاقتصادية من خلال إملاءات صندوق النقد الدولي، حيث هدد الساسة الأمريكان النظام الأردني بما سوف يلاقيه من ضغوط.
فقد سبق وأن صرحت هيلاري كلينتون ونقلاً عن صحيفة رأي اليوم ما يلي:
جاء تصريح هيلاري كلينتون (وزيرة خارجية أمريكا السابقة ومرشحة محتملة للرئاسة الأمريكية) في 10/11/2015 والقائل: "بأن الحديث عن مستقبل المنطقة غير ممكن قبل أن يتضح مستقبل الأردن ليضيف مزيداً من الغموض على الأجواء المتوترة السائدة في المنطقة".
فعملت أمريكا على إنهاء الدور الوظيفي للأردن، فبعد أن كان النظام يعتبر نفسه هو المتحدث باسم الدول العربية قامت أمريكا بمحاصرة دوره إلى غاية التقزيم في معظم ملفات المنطقة، ورفعت يده عنها ابتداء من ملف العراق عندما أدخل تنظيم الدولة إلى منطقة الأنبار؛ حيث كان للأردن علاقات قوية وعميقة مع بعض شيوخ القبائل في الأنبار، حيث كانت لقاءات متكررة وتنسيق دائم وقامت أمريكا بقطع ذلك التواصل.
وكذلك في الملف السوري فبعد أن استخدمت الدور الأردني بتمويل بعض الفصائل في الجنوب السوري واحتوائها لها، تم رفع يد الأردن عنها، وباشرت أمريكا هذا الدور بنفسها، بل وسّعت الأمر إلى جعل الحدود الأردنية مع سوريا والعراق مصدر قلق واضطراب دائم للنظام في الأردن.
وكذلك تعمل أمريكا على إلغاء الدور الأردني في القضية الفلسطينية، وأوكلت المهمة إلى مصر والسعودية، وأكبر دليل على ذلك عندما استثني دور الأردن في مباحثات المصالحة بين فتح وحماس، ولا يكاد النظام في الأردن يستطيع معرفة ما جرى في هذا الملف، والضربة القاصمة كانت عندما أعلن ترامب أن القدس عاصمة لكيان يهود فكانت بمثابة إعلان نهاية (الوصاية الهاشمية على المقدسات) التي يحاول النظام أن يستمد شرعيته من خلالها، وتم حصر النظام في الأردن بين خيارين أحلاهما مُرّ؛ إما أن يقبل بتدخل السعودية في ملف الأقصى، حيث طرحت نفسها كبديل عن الهاشميين بالوصاية على الأقصى، أو اللجوء إلى حضن تركيا وجامعة الدول العربية، وهذا ما كان؛ فأصبحت وصاية الهاشميين على الأقصى على المحك، وحتى اليهود الأصدقاء اللدودون للنظام في الأردن تخلوا عنه، وسال لعابهم لمصالحهم التي يمكن أن يحققوها من خلال انفتاح الخليج أمامهم، والشاهد على ذلك انفتاح السعودية على علاقات مباشرة مع يهود متجاهلة النظام في الأردن، مع أن النظام في الأردن كان في السابق بمثابة منسق وعراب العلاقات مع كيان يهود في المنطقة. "يتبع"
بقلم: الأستاذ أحمد عبد الرحمن
رأيك في الموضوع