منذ اندلاع التمرد بدارفور (غربي السودان) في العام 2003م، وحتى اليوم، لم تنعم ولايات دارفور بالأمن، وصار بعض سكانها بين نازح من جحيم الحرب، مستجيرٍ بنار المعسكرات داخل الإقليم، وبين مشارك في التمرد، وحامل للسلاح، إضافة إلى الاقتتال بين القبائل وانتشار السلاح، الذي أضحى في يد كل من يريد بالإقليم سوءًا، فصار هناك فراغ أمني كبير، في مناطق واسعة من دارفور، وكان الصراع الدولي حاضراً بقوة، حيث استغلت دول أوروبا الغربية، وبخاصة بريطانيا، الوضع، ودعمت المتمردين بالمال والسلاح، عبر عملائها في دول الجوار، كما دعمتهم إعلامياً حتى أظهرت قضية دارفور باعتبارها جريمة العصر.
وبالمقابل دعمت أمريكا الحكومة ضد المتمردين، وأطلقت يد الحكومة عسكرياً، حتى تأزم الموقف، فلجأت إلى مسألة المفاوضات من أجل إخضاع الحركات المسلحة، وإدخالهم في بيت الطاعة الأمريكي، وقد استطاعت إلى حد ما أن تشق الحركات المسلحة، وتأتي بمجموعات وفصائل منهم لتشارك الحكومة في السلطة والثروة. ثم كانت وثيقة الدوحة التي هيأت الإقليم للانفصال مستقبلاً، إلا أن الأمور لم تمض كما تريد أمريكا، فظلت الحركات الكبرى الأساسية ترفض اتفاق الدوحة، وتصر على فتحها (أي الدوحة)، رغم أنها من ناحية عسكرية أصبحت ضعيفة، إلا أنها من الناحية السياسية ما زالت تجد الدعم والسند في الفترة الأخيرة، وبعد إعلان الحكومة والمتمردين وقف إطلاق النار، شهد الإقليم نوعاً من الهدوء النسبي، بعد أن قامت الحكومة بعمليات عسكرية قوية في جبل مرة، معقل جماعة عبد الواحد محمد نور، فأضعفت قوته، وشلّت حركته، مما جعلها (أي الحكومة) في موقف القوي، فقررت جمع السلاح من أيدي الناس في دارفور مع اقتراب موعد رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان، لكي تظهر أن دارفور أصبحت مستقرة، وليس بها ما يهدد أمنها، وهو أحد المسارات الخمسة التي طلبتها أمريكا (وقف الحرب).
ولتعزيز هذا الموقف، قام الرئيس عمر البشير بزيارة لولايتي جنوب، وغرب دارفور، لإظهار أن الأمور مستتبة تماماً، وأن الإقليم ليس به ما يعكّر صفو السلام، وأعلن في زيارته هذه فتح صفحة جديدة في إقليم دارفور ليعود إلى سيرته الأولى قبيل اندلاع الحرب، وتحقيق التنمية والاستقرار في كافة مناطقه، وقال البشير: "طردنا شيطان الحرب من دارفور، وفتحنا صفحة جديدة، ودخلنا إلى مرحلة السلام والتصافي والتآخي"، وكان مما أكد عليه خلال زيارته التي كانت في نهاية الأسبوع الماضي، أنه لا يسمح بحمل السلاح إلا للقوات النظامية، كما طالب بالعودة الطوعية للنازحين إلى قراهم و(فرقانهم)، مطالباً الولاة والمعتمدين بتوفير أسباب الحياة وتأمينها للعائدين، حتى لا تكون هناك معسكرات نازحين، حسب قوله، وكان مما قاله أيضاً، إنه يريد لكل منطقة أن تحكم نفسها، وهنا بيت القصيد، فهو، أي البشير، يسير في المخطط الأمريكي الساعي لتفتيت ما تبقى من السودان، بعد انفصال الجنوب، بإعطاء الأقاليم حكماً فدرالياً، وهي الخطوة الأولى في طريق التفتيت والتمزيق.
إلا أن الأمور لم تمض كما اشتهت أمريكا وأرادت، وكما سعت حكومة البشير، فقد رفض بعض سكان معسكر (كلمة)، وهو أكبر معسكر للنازحين في دارفور، رفضوا زيارة البشير، بل وتصدوا لرجال الأمن، مما أوقع قتلى وجرحى بين النازحين، مما أعطى الحركات المسلحة، والأحزاب المعارضة لسلطة البشير فرصة للحديث عن عدم وجود الأمن في دارفور، وأن الحكومة لا زالت تقتل المعارضين لها حتى في معسكرات النازحين، وبذلك فشلت الحكومة في إظهار أن دارفور آمنة، كما أصبحت المعسكرات وبخاصة معسكر (كلمة) معضلة للحكومة.
إن حكام المسلمين ومنهم حكام السودان، همهم الأول والأخير هو إرضاء أسيادهم في الغرب الكافر المستعمر، مهما كان الثمن، ومهما كانت العقبات، وهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يهمهم سلام الناس وأمنهم، إلا بقدر ما يحقق لأسيادهم ما يريدون! فإن كان النظام في الخرطوم حريصاً على السلام والتنمية وأمن الناس في دارفور، فلماذا الآن؟! ولماذا ما تقوم به الحكومة الآن، لم تقم به قبل سنوات؟! ولماذا ربط الأمر برفع العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان، ومساراتها التي شرطتها على حكومة السودان؟! فالأمر واضح.
إن أمريكا لا تريد بإقليم دارفور ولا بالسودان خيرا، فهو وهمٌ في عقول حكام باعوا دينهم بدنيا أسيادهم، وقطعوا حبال الوصل بربهم وخالقهم، وتعلقوا بخيوط العنكبوت الأمريكية، ظناً منهم أن القوة بيد أمريكا، وأن بقاءهم في كراسي الحكم أيضاً بيد أمريكا، فصارت الطاعة العمياء لأمريكا، حتى لو كان في الأمر هلاك البلاد والعباد، فأمريكا التي مزقت السودان؛ بفصل جنوبه عن شماله، هي نفسها أمريكا راعية وثيقة الدوحة، التي من خلالها ستفصل دارفور، وعبر الحوار الوطني ومخرجاته سيمزَّق باقي السودان بالفدرالية، والوحدة الطوعية، وغيرها من سراب الكلام الذي يؤدي إلى الهاوية.
إن دارفور لن تنعم بالسلام والتنمية والرخاء إلا في ظل دولة تقوم على أساس عقيدة الأمة التي هي عقيدة الإسلام العظيم، عقيدة أهل دارفور وغيرها من بلاد السودان وأقاليمه، إنها دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي يجب على أهل دارفور، وأهل السودان، أن يعملوا من أجل إقامتها، وخلع حكام الجور والظلم الخانعين لأمريكا.
رأيك في الموضوع