يتجه الصراع الدولي الحاصل في ليبيا نتيجة الأزمة إلى مزيد من التعقيد، فقد كانت قبل ثمانية أشهر تتمحور بين فريقين فاعلين هما فريق مجلس النواب المهيمن عليه من خليفة حفتر وفريق المؤتمر العام الموجود في طرابلس. ثم ظهر طرف جديد على ساحة الصراع وهو فريق الصخيرات المتمثل في السرّاج ومجلسه الرئاسي فدخلت الأزمة في طورٍ جديد وخصوصاً بعد اشتعال جبهة سرت ضد "تنظيم الدولة"، ومع اقتراب إنهاء وجود تنظيم الدولة في سرت الذي كان عبارة عن شراكة تضم بقايا النظام السابق مع مجموعةٍ قليلةٍ بايعت "البغدادي" عن بعد، ومع اقتراب تحقق ذلك رأينا حفتر قفز قفزته الأخيرة باستيلائه على الموانئ النفطية في الهلال النفطي بعد عملية دفعٍ ماليٍ مسبق ومساومات جرت تحت الطاولة على نطاقٍ واسع شملت "الجضران" وبعض شيوخ قبيلة المغاربة. مما أتاح لحفتر أن يستلم الموانئ دون مقاومةٍ تذكر، حتى إنه كان لا يملك عناصر مسلحة تقوم بذلك، فسدّ هذا العجز بعناصر من حركة "العدل والمساواة" السودانية من "دارفور". وبهذه العملية أصبح حفتر على بعد 100 كلم فقط من "سرت" التي سيطرت عليها قواتٌ محسوبةٌ على المجلس الرئاسي "حكومة السرّاج". فكأن العملية سباقٌ وتسابق على من يسيطر على ميناء "السدرة" النفطي وبقية الموانئ.
أمّا المشهد في غرب البلاد فهو ليس ذا لون واحد فالثوار المخلصون موجودون في أغلب الساحل الغربي بداية من مدينة "سرت" حتى الحدود، على أنّ بعضاً من هذه الكتائب التحقت بحكومة السرّاج ومجلسه الرئاسي والمجلس الأعلى الذي يتكون من بعض أعضاء المؤتمر الوطني العام بعد أن فكّوا ارتباطهم بالمؤتمر مكونين "المجلس الأعلى" الذي نصت عليه وثيقة الصخيرات، غير أن كتائب الثوار المخلصين غير منضوين تحت قيادةٍ واحدة وبعضهم خاضعون لتوجهات جهوية حسب مناطقهم. وبعضهم غير قادر على فهم المشهد السياسي في البلاد، لذلك هذا البعض يحاول المجلس الرئاسي بدفعٍ من "كوبلر" التأثير عليه وتحييده.
أمّا الجنوب الليبي فتعصف فيه رياح الفتن والصراعات القبلية التي ينفخ فيها الفرنسيون باستعمالهم لقبائل "التبو" التي لها امتداد في دولة "تشاد" ودولة "النيجر" الخاضعتين للنفوذ الفرنسي. كما أنها "فرنسا" على تواصل مع بعض شيوخ قبائل "الطوارق" وقبيلة "أولاد سليمان" العربية وهي من يغذي الصراع بين "التبو" من جهة و"الطوارق وأولاد سليمان" من الجهة المقابلة. والحرب لم تتوقف منذ سنتين رغم عشرات المبادرات والمصالحات التي تمت في الداخل والخارج، حتى "دولة قطر" أدلت دلوها في موضوع الجنوب وجمعتهم عندها وخرجوا بمصالحة ووثيقةٍ للتنفيذ، غير أن الأمر لم ينجح، وبقايا النظام السابق موجودون في الطرفين يقومون بالتحريض على الاقتتال. بل هم من يحاولون الآن بإيعاز من القوى الغربية تجميع وتمويل مجموعات مرتزقة في الجنوب تحت مسمّى "تنظيم الدولة" الذي انهزم في سرت لاستغلاله مرةً أخرى في الجنوب، وكل هذه التقلبات على الساحة الليبية تحاول فرنسا بها اقتطاع الجنوب وجعله "كانتوناً" مرتبطاً بها عن طريق "تشاد" و"النيجر" الخاضعتين لها.
إن مسار الأحداث في ليبيا يرينا بوضوح رجحان كفة الصراع الأوروبي الأمريكي الدائر في ليبيا "بأبنائنا" لصالح أمريكا.
فإن ميلشيات حفتر استطاعت البقاء والسيطرة على الهلال النفطي بالكامل مما يجعل لحفتر دوراً أساسياً في أي تسوية تتم بين المتصارعين.
وفي الوقت نفسه تتدهور أوضاع حكومة "السرّاج" من حالٍ إلى أسوأ فهي لم تستطع الحصول على اعتراف برلمان طبرق، وبالرغم من تبنيها "إعلامياً" لقوات "البنيان المرصوص" التي قضت على تنظيم الدولة في سرت، غير أنها لم تستطع استثمار ذلك النصر، نتيجة لتعدد ولاءات المكونين لها، وأصبحت ملامةً في نظر جمهور الثوار والغالبية من الشعب على حالة التقصير التي تعيشها والارتباك الذي ترفس فيه، ولم يعد حصولها على اعتراف مجلس النواب أمراً محتملاً، وبالتالي فهي ذاهبةٌ إلى الاضمحلال لا محالة. والبحث حتى الآن عند الأوروبيين الذين دعموها ابتداءً عن بديلٍ ومخرج من المأزق، وبدأت مرحلة التواصل مع بعض الأطراف الفاعلة على الأرض، سواء أكانت من الثوار أم من الوسط السياسي الداعم للثوار مثل البقية الباقية من المؤتمر الوطني العام.
في هذا الجو تصاعد الدور التركي في تحريك الأزمة والبحث عن سبيلٍ للخروج منها. وقد حضر إلى البلاد وفدٌ تركي برئاسة نائب رئيس حزب العدالة التركي وتقابل مع ممثلين للأطراف في "طرابلس"، ومنهم المؤتمر الوطني العام، وحكومة السرّاج، وقيادات من حزب العدالة الليبي وغيرهم. ودارت مباحثات ومواجهات ونقاشات حادةٌ بينهم بوجود الوفد التركي.
وإذا نظرنا إلى المشهد السياسي من الداخل نجده:
- في المنطقة الشرقية تمت السيطرة شبه الكاملة لحفتر.
- في المنطقة الغربية تتنازعه القوى المحلية، منها ما هو تابع لحكومة "السرّاج" التي ليست على رأس واحد تغلبت عليها القوى المدعومة من أوروبا في اتجاه، وجماعة الإخوان في اتجاه آخر.
وقوى الأمر الواقع المتمثلة في "الثوار" ومن يمثلهم من الواجهات السياسية، أبرزها ما تبقى من المؤتمر الوطني العام ودار الإفتاء. وقد سبق وأشرنا إلى واقع الصراع في منطقة الجنوب.
والسؤال المطروح: من يحرك الدور التركي؟ هل هو ذاتيّ؟ أم هو بدفعٍ من بعض القوى الكبرى! في إطار التسابق بين هذه القوى الكبرى في السيطرة على النفوذ في ليبيا؟
حفتر قبل مدةٍ ذهب إلى روسيا طالباً المساعدة، وعارضاً منح روسيا قاعدة في "بنغازي"، وعقيلة صالح رئيس برلمان "طبرق" هو الآن في موسكو مرسلاً من قبل حفتر للغايةِ نفسها، باعتباره جهةً تشريعية.
والسراج وحكومته "الطائرة" يتنقل من إيطاليا إلى مالطا إلى تونس لبحث التعاون والتنسيق والمساعدة من الأوروبيين.
وتركيا أرسلت في طلب من يمثل المؤتمر لبحث الوضع.
ومما تقدم من حيثيات المشهد في هذا الوقت الذي تمر به أمريكا بانتقال الحكم فيها من إدارة إلى أخرى، وما يحمله ذلك من غيابٍ عن المسرح الدولي، فهي بذلك تقومُ "بتلزيم" الحالة الليبية لوكلائها الإقليميين في المنطقة بقصد تفويت الفرصة على الخصوم وإرباك المشهد زيادةً حتى لا يستطيعوا الإمساك بالساحة.
ويحضرني هنا ما قاله "الدبّاشي" مندوب ليبيا السابق في الأمم المتحدة يوم 10/12/2016م "إن أمريكا وبريطانيا يريدان استمرار الفوضى في ليبيا".
بقلم: أحمد المهذّب
رأيك في الموضوع