منذ اندلاع معركة استعادة الموصل في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والقوات العراقية تحرز تقدما في محيط مركز المدينة، محاولة محاصرة تنظيم الدولة الذي خسر الكثير من القرى والمناطق التي كان يسيطر عليها، إلا أن هذه المعركة فرضت أثماناً باهظة على ما يبدو. فقد فقدت القوات العراقية نحو 2000 من عناصرها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي حسب إحصائية للأمم المتحدة. ووفقا للأرقام الشهرية التي تصدرها بعثةُ المنظمة الدولية، فقد قضى 1959 من عناصر القوات الأمنية الشهر الماضي، وأصيب نحو 450 آخرون بجروح. وفي سياق متصل، كشف مسؤولون في قوات البيشمركة الكردية في 30/11 عن مقتل 1600 من عناصرها منذ اجتياح تنظيم الدولة أجزاءً شاسعة من العراق في حزيران/يونيو 2014. أما على صعيد ملف النزوح، فقد بلغ العدد الكلي للنازحين منذ انطلاق العمليات العسكرية لتحرير نينوى إلى اليوم (٦٢٣٩٩) يستثني هذا الرقم طبعاً آلافاً آخرين فروا أو أجبروا على الانتقال داخل الأراضي التي لا يزال يسيطر عليها التنظيم. إلى ذلك شددت منسقة الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في العراق، ليز غراندي، مساء الخميس الماضي على ضرورة استعداد المنظمة لتدهور الأوضاع في الموصل، مع ارتفاع أسعار الغذاء وانقطاع الكهرباء والمياه مع حلول فصل الشتاء. وأضافت أن "وكالات الأمم المتحدة ليست موجودة حتى الآن على الأرض في مناطق الموصل التي ما تزال تحت سيطرة تنظيم الدولة، لذلك لسنا على دراية بحقيقة الوضع بشكل مؤكد، لكن الأشخاص الذين فروا أخبرونا عن الأوضاع وما قالوه مقلق جداً". وأشارت إلى أن التقديرات تشير إلى وجود 700 ألف في الساحل الأيسر للمدينة وحوالي 500 ألف آخرين في الساحل الأيمن. وحول الأوضاع المعيشية وإمكانية إيصال المساعدات إلى المدينة، قالت: "إن الكهرباء مقطوعة والمياه أيضاً، ونعرف أنه من الصعب إيصال الإمدادات الغذائية إلى المدينة". وأكدت أن أسعار الغذاء ارتفعت بنسبة 50 بالمئة في الأسبوع الفائت، وفيما تنفد الإمدادات نتوقع أن تستمر أسعار المواد الأساسية بالمضاعفة خلال الأسابيع المقبلة، وهذا أمر بغاية الصعوبة بالنسبة للعائلات الفقيرة. يجب أن نستعد لتدهور الأوضاع في الموصل في فترة الشتاء".
أما بالنسبة لسير المعارك فالجيش العراقي لا يخفي حقيقة المعركة وصعوبة استعادة أكبر مدينة في شمال العراق حيث تمثل المعركة أكبر تحد يواجه الجيش والقوات المشاركة معه على مدى العامين الماضيين، فقد ذكر الفريق الركن عبد الأمير رشيد يار الله "في عملياتنا السابقة سواء أكان في تكريت أو الرمادي أو الفلوجة لم يكن هناك مواطنون داخل المدينة لذلك كان لدينا حرية العمل في استخدام السلاح". وأضاف في تصريحات للتلفزيون العراقي "لكن في معركة الموصل وجه السيد القائد العام (العبادي) بأن يبقى المواطنون في بيوتهم" مضيفا أنه بدون تلك القيود لكانت قوات مكافحة (الإرهاب) الخاصة سيطرت على النصف الشرقي من المدينة بالفعل، مشيرا إلى أن هذا سبب تأخر الحسم.وأشار يار الله إلى أن المعركة على الضفة الغربية من المدينة قد تكون أصعب لأنها كثيفة السكان كما أن الكثير من الناس الذين فروا من القتال في الشرق اتجهوا للأحياء الغربية الأهدأ نسبيا.
من المؤكد أن وجود المدنيين ليس الصداع الوحيد الذي يؤرق القوات الزاحفة، فقد بدأت الأمطار مع حلول فصل الشتاء التي حولت بعض الطرق إلى أوحال نظرا لطبيعة المدينة بالإضافة إلى تعرقل الدعم الجوي من قبل طيران التحالف بسبب انتشار السحب، كما أن قوات الأمن المنتشرة بالمنطقة ليست كلها مدربة على الحرب. حيث ذكر ضابط الفرقة المدرعة الذي تقاتل قواته في الأحياء الجنوبية الشرقية من الموصل إن وحدات الشرطة التي أرسلت للحفاظ على الأراضي التي سيطر عليها الجنود وتغطية ظهورهم ليست مؤهلة للمهمة. وقال "ليسوا مؤهلين لقتال حقيقي. إنهم مؤهلون فقط للحراسة"، مضيفا أنه تم استدعاء تعزيزات عسكرية من بغداد. بينما ذكر هشام الهاشمي الذي يقدم المشورة للحكومة العراقية في قتال تنظيم الدولة إنه يوجد نحو أربعة آلاف مقاتل داخل الموصل. وأضاف أن عناصر تنظيم الدولة لا يزالون منظمين جيدا وموزعين على خلايا تدافع عن أحياء منفصلة، لكن الضربات الجوية على الجسور عبر نهر دجلة قطعت الاتصال بين شرق المدينة وغربها وهو ما عزز فرص الجيش في تحقيق تقدم ملحوظ، إلا أنه ذكر إنها ستكون "بطيئة وحذرة".
المعركة على الأرض غير المعركة في الفضائيات والاجتماعات والتصريحات النارية والصراعات السياسية، وهذا ما يجعل أمد المعركة يطول، وعدد القتلى من الأهالي والقوات المهاجمة يتصاعد، ومليونية النزوح وحجم الدمار تتحقق كما أرادت لها الأمم المتحدة، وسط مؤامرة منظمة وسوء تخطيط، وفشل خطة عسكرية دون تقدير لمجريات واستحضارات الخصم هناك، بالإضافة إلى تعدد القوات المهاجمة التي فاقت المائة ألف مقاتل بالإضافة إلى قوات التحالف والبيشمركة والحشد الشعبي والعشائري فلكل منها أجندته ومصالحه ومشروعه التوسعي، والوقت حان تاريخيا وعسكريا وسياسيا لتنفذ هذه المشاريع، نظراً لواقع سياسي هزيل وضعيف وتابع، إذ لا يوجد من يقول (لا) في وجه الأطماع، من الأحزاب والكتل الحاكمة، والتي رهنت ولاءها لأمريكا وإيران وغيرهما، ولا تهمها مصلحة البلد، فالفساد السياسي والمالي بلغ مداه المريع الذي لم يشهده التاريخ، في ظل حكومات أنتجها الاحتلال الأمريكي، وما تزال تحكم بعقلية طائفية متخلفة، تابعة ذليلة لمن نصبها على سدة الحكم، وهذا هو مقتل العملية السياسية منذ أن احتلت أمريكا العراق.
هذه الأسباب مجتمعة، ساعدت تنظيم الدولة على الصمود والمقاومة وإطالة أمد المعركة، وفرض خسائر بشرية غير متوقعة، في صفوف الجيش والقوات المهاجمة، رغم صعوبة المعركة بوصفها "حرب شوارع" التي لم تخضها القوات العراقية سابقاخصوصا لمدينة معروفة بأزقتها وطرقها الكثيرة المتعرجة الضيقة نظراً لكبر مساحتها وطبيعتها الجغرافية التي يغلب عليها كثرة الوديان والهضاب والتلال، إضافة إلى غياب مقصود لطيران التحالف الأمريكي، وضعف مشاركة طائرات الشينوك والأباتشي وغيرها التي غالبا ما تكون سببا في حسم معارك الشوارع، لتفوقها التكنولوجي العسكري.
وسط هذه المعارك التي تستنزف فيها الدماء والأموال وتنتهك فيها الأعراض والحرمات بأيدي أبناء البلد الواحد جراء سياسات الحكومة الطائفية ومن خلفها الكافر الأمريكي المستعمر، يعيش المسلمون مشردين غرباء في ديارهم، فأين أبو العيال ليؤويهم وينصرهم؟ من نازحي الموصل إلى نازحي سوريا الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في مخيمات الذل والعار التي أقامتها لهم المنظمات الدولية والأنظمة الحاكمة والتي تفتقر لأبسط مقومات الحياة في ظل أجواء فصل الشتاء الشديد البرودة، مسلمون يعيشون في بلادهم حياة تشريد وحرمان وعزلة وفقر وعوز كما لو كانوا منبوذين حتى تجرّأت الأنظمة العميلة على التفكير ببناء جدار فصل عنصري يطوقهم! أهكذا يعيش المسلمون في ديارهم؟ أهكذا يحتضن الأخ أخاه؟ أهكذا يتصرف أحفاد المهاجرين والأنصار الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخاء والإيثار؟
إننا ندرك أن المسلمين يتشوقون لإغاثة إخوانهم لكن يحول بينهم وبين ذلك أنظمة عميلة وحدود ملعونة أقامها الكافر المستعمر لتفصل بين المسلمين، أنظمة لا ترى أخوة المسلمين وتوادهم وتعاطفهم، بل ترى فرقة الوطنية المنحطة ومخططات أسيادها الوحشية الرامية إلى تدمير بلاد المسلمين وتشريد أهلها ليبقوا مستعبدين خاضعين لنفوذهم واستعمارهم. إن المسلمين لا خلاص لهم من الكوارث والمصائب التي يعيشونها سوى باقتلاع هذه الأنظمة الجبرية وإقامة الخلافة على منهاج النبوة، التي توحد المسلمين وتنصر المستضعفين وتعيد للأمة عزها ومكانتها وريادتها بين الأمم...
بقلم: علي البدري- العراق
رأيك في الموضوع