أعلنت المدّعية العامّة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بن سودا في 21/11/2016 أنّ: "هناك قاعدة معقولة من المعلومات تسمح بالاعتقاد أنّه خلال استجواب معتقلين سابقين، لجأت عناصر من القوات المسلحة الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) إلى أساليب تُشكّل جرائم حرب"، وأشارت إلى أنّ: "غالبيّة هذه العمليّات جرت في عامي 2003 و2004، وقام بها ممثلو الهيئات العسكرية الأمريكية الذين قاموا بتعذيب ما لا يقل عن 61 معتقلا تعذيبا جسديا ونفسيا، وبالاعتداء على كرامتهم في أفغانستان"، ورجّحت: "أن يكون ممثلو وكالة الاستخبارات المركزية قد عرّضوا للتعذيب وامتهان كرامة ما لا يقل عن 27 معتقلا أو اغتصابهم في أفغانستان وبولندا ورومانيا وليتوانيا خلال الفترة بين عامي 2002 و 2008".
هذه هي المرّة الأولى التي تُلمّح فيها المحكمة الجنائية الدولية إلى فتح تحقيق بجرائم حرب أمريكية في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المحكمة.
وغنيّ عن القول إنّ جرائم الحرب التي ارتكبتها أمريكا في سجون باغرام وأبي غريب وغوانتنامو قد وثّقّها المُوثّقون، ولم يعُد يُجادل في وقوعها حتى الأمريكيون أنفسهم، وقد تم تقديم بعض السجناء الأمريكيين في محاكم أمريكية إلى محاكمات صورية بعد ثبوت الأدلة التي تُدينهم، وافتضاح أمرهم، وبعد قيام بعضهم بنشر صور التعذيب في وسائل الإعلام، وتفاخرهم بالقيام بها بساديّةٍ يندى لها جبين البشرية، فارتكاب السجّانين الأمريكيين لأعمال تعذيب ضد سجناء من العراقوأفغانستان ومسلمين آخرين لم يعُد سراً يحتاج إلى إثبات، فقد قام بها هؤلاء المجرمون علناً، ووفقاً لسياسة منهجية تبنتها إدارة جورج بوش الابن بهدف كسر شوكة المقاومين في أفغانستانوالعراق، وقاموا بها بشكلٍ مُتكرّر، وهم يعلمون بأنّ القوانين الأمريكية تُغطي جرائمهم، ولا يأبهون لأية قوانين أخرى، فهم يرون أنفسهم وكأنّهم يملكون حصانةً عالمية، فلا يخشون الملاحقة الدولية باعتبار أن وراءهم دولة عظمى ينقاد لها العالم.
والراجح أنّ الأمريكيين ما زالوا حتى الآن يُمارسون ضد المسلمين في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وغيرها أشكالاً من التعذيب لا تُعدّ ولا تُحصى، فمنها ما تمّ تشريعه كالإيهام بالغرق، ومنها ما يتمّ إخفاؤه كسائر أنواع التعذيب الوحشي الأخرى، فمسألة قيام الأمريكيين بأعمال التعذيب والتنكيل ليست بجديدة، ولا هي خافية على جماعات حقوق الإنسان والمحاكم الدولية، وإنّما الجديد يتمثّل في أنْ تتجرأ محكمة الجنايات الدولية باتهام الأمريكيين ومحاولة إدانتهم، والتلويح بتقديمهم إلى المحاكمة.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: هل تجرؤ محكمة الجنايات الدولية - وهي أوروبية الهوى - أنْ تُحاسب الأمريكيين كما تفعل مع الأفارقة ومع العرب والمسلمين؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال دعونا نُلقي نظرة على واقع تشكيل هذه المحكمة وأهم أعمالها.
تشكّلت المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002، وهي أول محكمة جنائية في العالم أنشئت للنظر في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وعمليات الإبادة، وقد وافقت على إنشائها 120 دولة، ليس من بينها روسيا وأمريكا والصين والهند وكيان يهود، وفتحت لها تحقيقات في كل من: أوغندا، وأفريقيا الوسطى، والكونغو، ودارفور (السودان)، وليبيا، وساحل العاج، ومالي، وكينيا، أفريقيا وكلها مناطق أفريقية ممّا جعل الأفارقة يقولون إنّها محكمة خاصة بمحاكمة الأفارقة فقط، ومن بنود ميثاقها أن عدم توقيع أي دولة على المعاهدة لا يعفي رعاياها من المحاكمة، إذ يمكن محاكمة أشخاص من دول أخرى رفضت التوقيع على المعاهدة في أي قضية، شريطة وقوع الجرائم في دول وقّعت على المعاهدة، وهذا يعني نظرياً إمكانية محاكمة أي شخص مهما كانت جنسيته إذا أدين من قبل جهة موجودة في إحدى الدول المُوقّعة.
وبعد هذا التوضيح الموجز لواقع لمحكمة نستطيع الإجابة على السؤال المذكور أعلاه بالقول بأنّ المحكمة ليست جادّةً في محاكمة الأشخاص الأمريكيين الذين ارتكبوا جرائم حرب في العراق وأفغانستان وغيرهما، ولو وجدت الأدلة الكافية، لأنّه من ناحية قانونية إجرائية يستطيع مجلس الأمن إبطال قرارات هذه المحكمة بسهولة، فالمحكمة لا تملك سلطة فعلية على الدول الأعضاء في مجلس الأمن، أي أنّها لا تملك سلطة على الدول الكبرى ورعاياها، ومن ناحية سياسية فواقع المحكمة أنّها أداة غربية استعمارية تُوجّه كل أعمالها ضد الدول الضعيفة والشعوب الفقيرة.
أمّا ما هو السبب في تحريك ملف المُدانين من الأمريكيين في ارتكاب جرائم تعذيب فالراجح أنّ السبب هو قيام الأوروبيين الذين يُسيطرون على المحكمة بالضغط على أمريكا، وتذكيرها بأنّ أوروبا لديها ما يمكن القيام به للتشويش على السياسة الأمريكية إنْ هي تعرّضت للمصالح الأوروبية، لا سيما بعد فوز ترامب بالرئاسة، والذي لوّح بمطالب باهظة على الأوروبيين الالتزام بها.
رأيك في الموضوع