إنّ تبني فكرة الاستفتاء التي أجرتها بريطانيا على موضوع البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي هو تبنٍ لفكرة خطيرة غير مأمونة العواقب، ليس بالنسبة لبريطانيا وحسب، بل بالنسبة لكل الدول الأوروبية، فتعليق مصير الدول على استفتاءات شعبية بحجة أنّها من مستلزمات الديمقراطية، ما هي في الواقع سوى مقامرة على مصائر الشعوب، ومجازفة لا يقوم بها العقلاء.
فترك تقرير مصير الشعوب للأهواء والأمزجة والعقول المتأثرة بوسائل الإعلام الموجّهة لا يأتي على الأغلب بنتائج سديدة، ولكن هذه هي طبيعة النظام الديمقراطي الفاسد الذي ابْتُلِيَت به معظم الشعوب المتقدمة، وقلّدتها فيه أنظمة الحكم التابعة، وحدث ذلك كله بسبب غياب نظام الحكم الإسلامي من الحياة السياسية، كونه هو النظام الوحيد الذي يُعطي الحلول الصحيحة للأمّة الإسلامية وللأمم والشعوب الأخرى على حدٍ سواء.
وأمّا بالنسبة للاستفتاء الذي أجرته بريطانيا في 23/6/2016 على وجه الخصوص، فقد كان الخوف من نتيجته تؤرّق مسبقاً صُنّاع القرار في أوروبا والعالم. فما إن ظهرت نتيجة التصويت بالاستفتاء لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حتى تسارعت الأحداث، وتباينت المواقف وتبلورت الآراء، واضطربت الأسواق المالية، واكتنف الغموض المشهد السياسي الأوروبي على المدييْن المنظور والبعيد.
لقد شجّعت نتيجة الاستفتاء تلك تيارات اليمين السياسي الأوروبي، ودعاة الحركات الانفصالية في أوروبا، وشجّعت هذه النتيجة أيضاً شعوباً أوروبيةً أخرى للحذو حذو البريطانيين، فدول مثل السويد وهولندا وفرنسا وإيطاليا أصبح اليمين فيها يضغط على الحكومات للقيام باستفتاءات مماثلة.
ومن هنا كانت هذه الخطوة البريطانية تُمثّل تهديداً حقيقيا ووجودياً لمنظومة الاتحاد الأوروبي بِكُلّيته، وقد نشر وزير الخارجية الإسباني، مانويل غارسيا مارغالو مقالاً في صحيفة (البايس) الإسبانية الأوسع انتشاراً تحت عنوان (بغض النظر عن النتيجة فإن المزيد من أوروبا ستحذو الحذو نفسه).
لقد ظهر أنّ أخطر فكرة تُثير الانقسام في منظومة الاتحاد الأوروبي هي فكرة تقسيم الأعضاء فيه إلى مجموعتين، واحدة ضمن منطقة اليورو تلتزم بعملة موحدة وبنظام متميز وخاص بها، والثانية بدون عملة موحّدة وبنظام آخر يجمعها مع الأولى على أسس مغايرة أقل أهمية، وهذا التقسيم كان هو السبب الرئيسي في خروج بريطانيا من الاتحاد، وهو ذات السبب الذي جعل أعضاء آخرين يُفكرون بالخروج منه.
لقد شكّل خروج بريطانيا سابقةً في تاريخ الاتحاد الأوروبي، وسدّد ضربةً موجعةً لفكرة الوحدة الأوروبية، ولمفهوم الاندماج والتوسع في المستقبل، فكان هذا الخروج الذي بدا مفاجئاً للكثيرين يُمثّل بالفعل انتكاسةً حقيقية لأوروبا، وخطوة كبيرة إلى الوراء.
فبعد أكثر من نصف قرن من الإنجازات التي حقّقها الاتحاد الأوروبي من مثل توحيد وتخفيض التعرفة الجمركية بين أعضائه، وإقامة منطقة حرة للتجارة، وإقرار عملة موحدة، وإنجاز العديد من التشريعات المشتركة على مستويات متعدّدة، ما زال الاتحاد الأوروبي بعيداً عن بلورة مفهوم (الفكرة الأوروبية) على نحو واضح، وما زال عاجزاً عن صياغة تصور محدّد لمفهوم المصير الأوروبي المشترك.
لقد كان التخوف بالنسبة للبريطانيين من سيطرة دول منطقة اليورو الـ (19) على مجريات اتخاذ القرارات في الاتحاد الأوروبي المكون من 28 عضواً، فكان الأعضاء التسعة غير المنضوين في منطقة اليورو مستَبعدين تماماً عن المشاركة في اتخاذ القرارات، وهو الأمر الذي أدّى إلى تهميش دور بريطانيا والدول الأخرى الثماني غير المنضوية في منطقة اليورو، والسبب يتعلق بفكرة الاتحاد النقدي بعملة واحدة، والتي رفضت بريطانيا الدخول فيها، فأصبح الأعضاء المنضوون في عملة اليورو هم محور اتخاذ القرارات في الاتحاد الأوروبي، وأصبحت جميع القرارات المتخذة تتطلب تفاوضاً من قبل أعضاء منطقة اليورو لوحدهم في البداية، ثم بعد ذلك يتم عرضها على سائر الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لنيل المصادقة عليها كتحصيل حاصل.
ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد لخروج بريطانيا من الاتحاد، فهناك أسباب أخرى حملت البريطانيين على الخروج، ومنها مشكلة الهجرة التي ترى بريطانيا فيها مشكلة كبرى تواجه المجتمع في بريطانيا، حيث تسمح قوانين الاتحاد الأوروبي بالهجرة بين دول الاتحاد، وهذه القوانين كانت السبب في تدفق المهاجرين إلى بريطانيا، وأثّر هؤلاء المهجرون على مستوى المعيشة وعلى النسيج المجتمعي بشكل عام، وشكّلوا عبئاً مادياً إضافياً على الخدمات العامة كالتعليم والصحة التي قُدّرت قيمتها بـ (3,67) مليار جنيه إسترليني سنوياً، وطالبت بريطانيا الاتحاد بوضع آلية للتحكم في حركة المهاجرين الوافدين إليها من البلدان الأوروبية المختلفة إلا أن مطالبها لم تلق آذاناً صاغية من الاتحاد، ومنها أيضاً محاولة الاتحاد فرض سياسات خارجية موحّدة على أعضائه، وهو الأمر الذي قيّد الدبلوماسية البريطانية النشطة، ووضع قيوداً على نشاطاتها.
إنّ خروج بريطانيا عكس أزمةً عميقةً أثّرت على المشروع الاندماجي الأوروبي الذي يُعتبر بالنسبة لكثيرٍ من الأوروبيين حلُماً أوروبياً يتعلق بالوحدة والعظمة والقوة والمجد، وأثار لديهم مشاعر الخوف من الفرقة والضعف، ومخاوف الانفصال والتشرذم؛ ففي إسبانيا على سبيل المثال، ثارت المخاوف من أن خروج بريطانيا وما قد يعقبه من دفع اسكتلندا إلى المطالبة بالاستقلال عن بريطانيا، قد يحفز الانفصاليين في منطقة كاتالونيا للمطالبة بالمثل، وأثار خروج بريطانيا القلق في أيرلندا حول استمرار جهود التسوية السلمية في أيرلندا الشمالية.
وهذه المتاعب التي ستواجه الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا سواء أكانت اقتصادية أم سياسية ستُساعد في صعود اليمين الأوروبي المتطرف، والذي سيستغل مسائل اللجوء والهجرة غير الشرعية، للمطالبة بالانغلاق والانفصال عن الاتحاد الأوروبي (المترهّل)، وسيعمل لتحقيق ذلك على تأجيج النعرات القومية والإسلاموفوبيا.
أدركت ألمانيا - وهي التي تُعتبر قاطرة الاتحاد الأوروبي - خطورة الوضع مبكراً، فقدّمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وعوداً لكل أعضاء دول الاتحاد بأنْ يتم إشراك جميع الدول الـ27 في المناقشات، وليس فقط دول اليورو، لتتلافى الأخطاء الموجودة، فالأولوية لديها بعد خروج بريطانيا أصبحت منع المزيد من الانقسامات، والدفع نحو المزيد من الإصلاحات خاصة ما يتصل بالنظام المالي الأوروبي، ومحاولة إشراك جميع القوى السياسية الرئيسية في دول الاتحاد ضمن عملية تجديد شاملة.
ستعمل ألمانيا على قيادة الاتحاد الأوروبي بأساليب جديدة تُحاول من خلالها منع تكرار التجربة البريطانية بكل ما أوتيت من قوة، وهذا من شأنه أنْ يزيد من الهيمنة الألمانية في أوروبا، ويزيد من تأثيرها، ويضيف من تحمل الأعباء الناتجة عن اختلاف مستويات القوى الاقتصادية بين دول الاتحاد.
وإنْ لم تُفلح ألمانيا في توحيد دول غرب أوروبا على النحو الذي تُريد، فستتجه شرقاً، وستُركّز على توجيه محور الاتحاد الأوروبي برمته نحو شرق أوروبا، حيث يوجد الثقل الألماني التقليدي الذي ينافس الثقل الأمريكي المتجذر هناك.
أمّا بريطانيا فستسعى - وبالرغم من خروجها من الاتحاد - للاحتفاظ بعلاقة خاصة متميزة معه، وستعمل في الوقت نفسه على استقطاب كتلة من الدول الأوروبية غير المنضمّة للاتحاد، أو التي ربّما ستنفصل عنه مستقبلاً، وستتحوّل أوروبا مع مرور الوقت إلى مجموعتين أوروبيتين برأسين أو أكثر، وسينتهي بالتالي حلم أوروبا الموحدة إلى الأبد والذي طالما تغنّى به الأوروبيون.
رأيك في الموضوع