والسياسة بمعناها المحلي، كرعاية شؤون الأمة وشؤون الدولة، وإن كانت هامة، ولكنها لا يصح أن تكون هي محل الاهتمام، ولا يصح الاقتصار عليها. لأن جعلها محل الاهتمام يعني الأنانية والعمل للذات، فوق كونه يضرّ في إيجاد الصراع الداخلي بين السياسيين ثم بين أفراد الأمة أو فئات منها. وفي هذا ضرر على الدولة والأمة، ولأن الاقتصار عليها فوق كونه لا يجعل المرء يدرك السياسة، فإن فيه غفلة عن شؤون الأمة، والسياسي لا بد أن يرعى شؤون أمته حتى يكون سياسياً. وهذا لا يتأتّى إلا بالاهتمام بشؤون الأمم الأخرى، والدول الأخرى، ومعرفة أخبارها، وتحركاتها، والإحاطة ما أمكن بمعلومات عنها.
لذلك كانت السياسة الدولية، والسياسة الخارجية جزءاً لا يتجزأ من السياسة، من حيث هي سياسة، ولذلك لا تكون السياسة بمعنى السياسة إلا إذا كانت أفكاراً عن رعاية شؤون أمته، وأفكاراً عن رعاية شؤون الأمم الأخرى والدول الأخرى. فعلاقة السياسة الدولية والسياسة الخارجية، بالسياسة علاقة جزء من كل، بل الجزء الجوهري الذي يكونها.
والسياسة الخارجية، والسياسة الدولية، التي يجب الاهتمام بها، هي سياسة الأمم المؤثرة، لا جميع الأمم، وسياسة الدول المؤثرة لا سياسة جميع الدول، ولا سيما فيما له علاقة بأمته أو دولته، أو العقيدة التي تقوم عليها الدولة. ومن هنا كانت السياسة الخارجية والسياسة الدولية، إنما تعني سياسة الأمم المؤثرة والدول المؤثرة. لا سيما المؤثرة على سياسة أمته ودولته، سواء أكان هذا التأثير قريباً أم بعيداً.
لذلك يجب أن تكون الأمة الإسلامية كلها لا سيما السياسيين مشغولة باتقاء الخطر الخارجي، أي أن تظل مشغولة في السياسة الخارجية والسياسة الدولية، بالمعرفة، والتتبع، وإبصار مواطن الخطر.
على أن الدولة الإسلامية، لا تعني أنها الحكام، بل هي الأمة التي تحت سلطان الخلافة فعلاً، فالأمة كلها هي الدولة، والدول الكافرة تعرف ذلك، وتعمل على أساسه. وما دامت الأمة مدركة أنها هي الدولة، فإنها تظل متتبعة لأخبار وأحوال الدول الأخرى، والشعوب والأمم الأخرى، حتى تظل على وعي على أعدائها، وحتى تظل في حالة استنفار فِعْليٍّ ضد جميع الأعداء. ولهذا فإنه يجب أن تظل أخبار السياسة الخارجية شائعة في الأمة كلها، مُدرَكَةً من الناس بشكل عام. وأن يكون هَمُّ السياسيين والمفكرين، إطلاع الناس على السياسة الخارجية...
وإذا كان لا بد من معرفة السياسة الخارجية والسياسة الدولية، لا سيما للسياسيين، والمفكرين، والعلماء، فإنه لا يَصحّ الاقتصار على الإجمال، والنتائج، فإن هذه إذا جرى الاقتصار عليها، وإن كان مفيداً، ولكنه لا يكفي لإدراك الخطر، ولا لمعرفة كيفية الاتقاء، ولا لفهم الحوادث، والوقائع، والنوايا والأهداف. بل لا بد من معرفة التفاصيل، والأعمال، والحوادث، ثم تحليلها والوقوف على النوايا والأهداف. والعدو حتى تَعرِف نواياه، تجاه الدولة والأمة، لا بد من أن تَعرِفَ أولاً كلامه، ووضع هذا الكلام. وثانياً: تصرفاته والظروف التي جرت فيها هذه التصرفات، وثالثاً: علاقاته، ووضع هذه العلاقات، ومن غير معرفة هذه الثلاث لا يمكن الاطلاع على نوايا العدو.
وهذه الثلاث تحتاج معرفتها إلى معرفة التفاصيل، فالكلام لا بد من معرفة تفاصيله وتتبعها، حتى تُدرك الأوضاع التي قيل فيها هذا الكلام. وكذلك التصرفات، والعلاقات. وإذا كان سواد الأمة لا يهتم بالتفاصيل، فإن أفرادها البارزين ولا سيما السياسيين لا بد من أن يعرفوا ذلك. لأنهم مسؤولون، ولأنهم يزعمون أنهم يرعون شؤون الأمة.
عن كتاب أفكار سياسية لحزب التحرير
رأيك في الموضوع