أسقطت الخلافة العثمانية في عام 1924م بعد أن امتدت لقرون طويلة عرف فيها المسلمون أن سلطانهم بيدهم، وضح ذلك من خلال أعمال بيّنها خلفاء رسول الله e وصحابته كأبي بكر وعمر وعبد الرحمن ابن عوف بجملة سلوكيات تدل دلالة واضحة على ذلك، فأبو بكر خاطب الناس قائلا: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم"، وعمر بن الخطاب قال: "إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموني"، وعبد الرحمن بن عوف شاور الناس فيمن يختارونه خليفة لعمر، خطوات وإشارات لا لبس فيها ولا ريبة تدل أن السلطان للأمة.
وبعد أن أسقط سلطان المسلمين تسلط عليهم حكام جبريون عملاء للغرب الكافر المستعمر فسلبوهم سلطانهم ومارسوا عليهم شتى صنوف العذاب خدمة لأعداء الإسلام، لضمان عدم عودة حكم الإسلام، استمر المسلمون على هذه الحال عشرات السنين وهم لا يعلمون حقوقهم ولا ينفذ عليهم شرع ربهم.
ذكريات تروى عن أحوال المسلمين منذ تاريخ إسقاط حكم الإسلام حتى هذا اليوم يندى لها جبين الإنسانية، ممارسات جل غايتها منع استعادة الأمة لسلطانها ومعرفتها لحقوقها. حتى كان عام 2011 حيث دبت الحركة في الأمة، وهبت تطالب بحقوقها وسلطانها المسلوب.
بدأت هذه الحركة من تونس مروراً بمصر معطية نفحاتها لليبيا ثم لليمن وصولاً لأرض الشام المبارك، أدرك حينها أعداء الإسلام خطورة الحدث وباتوا يفكرون كيف عليهم التعامل معه.
الجميع أصبحوا يدركون ما حصل في بلاد المسلمين وكيف سرقت ثوراتهم بوضع من يلبي مطالب الناس بحكومات شعارها الإسلام وباطنها العلمانية، فسلب سلطان الأمة من جديد ولكن هذه المرة من خلال العزف على مطالب الناس بأن أعطوا السلطان لمن ينادي بمصالحهم، ترافق مع حالة صمت من الأمة، والحال لا يختلف عن باقي بلاد الثورات حتى الوصول للشام، فبنيتها المعقدة من الثورة كانت كفيلة بأن تجعل الحيرة صفة أساسية لكل حل يقترح، والضياع ميزة لكل من أراد التدخل في الحل؛ فأسد الأب برع خلال سنوات بطشه بتفكيك بنية المجتمع وبنية الدولة في سعي منه لمنع وجود وسط سياسي معارض ينافسه بأخذ سلطان الناس لصالحه، استمر الحال على ما هو عليه حتى انفجار الثورة في آذار من عام 2011.
فخروج الشعب لينادي بإسقاط حكم أسد وهتافه بأن يستعيد ما سلب من سلطانه مع ما ذكر من غياب الوسط السياسي مقارنة مع باقي بلاد الربيع العربي، جعل أن لا حل في الأفق بائناً ولا معارضة يلقى لها السلطان فتتلقفه، وينكمش الأمر وينحسر ولا يخرج عن حده المرسوم له سابقاً في أروقة الكفر ودهاليز المكر والخداع.
رغم ما ذكر عن واقع سوريا إلا أن محاولات سلب السلطان من الناس مرة أخرى بقي الشغل الشاغل لملة الكفر وبقيت تسعى له حتى صار لها الأمر من خلال فصائل ربطتها بها إما عن طريق مندوبين دائمين لها في دول الكفر أو عن طريق غرف عمليات، كان ركيزتهم وسندهم في ذلك ما قدموه من أموال لأجل جذب ضعاف النفوس لها فكان لهم ما كان، كل ذلك في ظل تغافل الحاضنة الشعبية، فسلطانها الذي خرجت تطالب فيه بدأ يتقلص أمام توسع الفصائل وامتداد بقع نفوذها، حتى وصل الحال أن أصبح سلطان الناس مسلوباً مرة أخرى كما كان، ولكن الذي سلبه اليوم هو من خرج لحمايته بادئ الأمر ومن دافع عنه في تشابه حال بين الدول التي مرت بها رياح التغيير، فأصبح المشهد أن الثائر قد سلم نتائج ثورته المتمثل بسلطانه لشخص من صلب ثورته قام وقدم وضحى وبذل فكان سالب سلطان بحق لم يأت على آلام الناس ومعاناتهم فكان سلبه شرعياً.
سرعان ما بدأت نتائج ذلك السلب تظهر بممارسات الفصائل القمعية وفرض نظم حياة تختلف عما خرج الناس لأجله ومطالبين به.
وكان من أوضح الدلالات على سلب هذا السلطان ما تقوم به الفصائل اليوم من سوق أبناء المسلمين ليموتوا لغايات وأهداف لا تعنيهم، والزج بهم في اقتتال لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وتقديمهم قربات لأجل غايات خاصة لا تخدم سوى أعداء الإسلام، يقابله جمود عند الناس تجاه ما يحصل، في دلالة على أن سلطانهم قد تسلط عليه متسلط وسلبهم إياه.
فأصبح حال المسلمين اليوم في الشام بعد أن كان سلطانهم مسلوبا من قبل نظام أسد الوظيفي، صار مسلوباً لصالح فصائل وظيفية موجودة لأجل معين ووقت محدد ستنتهي بإنهاء مهمتها ودورها المرسوم لها وبعد أن تؤدي مهمتها بكسر إرادة الأمة لصالح ملة الكفر.
فاليوم تشابه للأحوال لما قبل آذار من عام 2011، لذلك فالحل للخروج من هذه الحال هو ما بدأ العمل به في تلكم الفترة بأن خرج الناس عن سكوتهم ورفعوا من أصواتهم ونزلوا للشوارع مطالبين بأن يعود إليهم حقهم بالسلطان.
هذا من أوجب الواجبات اليوم وبه يستطيعون أن يرجعوا حقهم المسلوب وسلطانهم المغصوب وأن لا يخشوا في الله لومة لائم ولا تمنعهم رهبة الناس أن يقولوا بما لهم من حق، وليكن مسندهم أن قول الحق لا يقرب من أجل ولا يعسر من حال، فما يحصل اليوم من المتسلط الجديد لا يمكن السكوت عنه وبخاصة أنها ستذهب بالثورة وأهلها لغياهب الظلام وستكون عنصرا أساسيا بالقضاء عليها.
ولمنع ما قد يتكرر من محاولات سلب هذا السلطان يجب أن يضعوا لهم ولسيرهم شواخص تحميهم وتحمي سلطانهم من أن يسرق؛ بتحديد ما يصبون له من هدف وخطوات عمله، يقبلون بكل من ينزل تحتها ويلفظون خارجها كل متآمر يحاول سرقتها والتسلط عليها، فما صار الحال اليوم على ما هو عليه إلا نتيجة لسكوت الناس عن حقوقهم ووقوفهم موقف المتفرج من الذين يسرقون تضحياتهم، وليحذروا أن يقعوا في دائرة المدبرين عن هذا الحق فيكون فيهم حديث رسول الله e حين قال: «لَتَأْمُرُنَّ بالْمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لَكُمْ».
الموقف اليوم في أضيق ساعاته ونهاية الطريق، فيا أهل الشام عموماً وأهل المحرر خصوصاً! ها قد شاهدتم تسليم المناطق السابقة للنظام بأم أعينكم وترون كيف وقف أهلها موقف المتفرج من المتسلط، واليوم وفي حال لم تتحركوا لتسترجعوا ملككم وسلطانكم فمصير ما تبقى لن يكون أفضل حالاً مما مضى، فعليكم أن ترفعوا أصواتكم وأن تتكتلوا وتنزلوا مثل نزولكم الأول، فالأمر عظيم لا يحتاج لمزيد من الصمت وإلا فالقادم أدهى وأمر.
بقلم: الأستاذ عبدو الدلي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع