إن الاستعمار جزء لا يتجزأ من المبدأ الرأسمالي، بل هو طريقة تنفيذ فكرته، ولذلك لا سبيل لعلاجه جذرياً إلا بمقاومة المبدأ الرأسمالي وإزالته من الوجود، ولذلك لا بد أن تبذل الجهود في إزالة المبدأ الرأسمالي والقضاء عليه. لقد سارت الشيوعية شوطاً في معالجة الاستعمار، وفي مقاومة المبدأ الرأسمالي، ولكنها سارت بفكرة خطأ، وبمقاومة عرجاء، فقد قاومت عقيدة فصل الدين عن الدولة بعقيدة التطور المادي. وعقيدة التطور المادي عقيدة خطأ، وتخالف فطرة الإنسان؛ ولذلك لم تجد قبولاً في المجتمعات الرأسمالية، فضلاً عن أن الأفراد الذين اعتنقوها لم تؤثر في سلوكهم في الحياة؛ لأن من يعتقد بالتطور المادي لا يضيره أن يطبق فصل الدين عن الدولة، إذ إن فكرة فصل الدين عن الدولة يمكن أن يعتنقها المقر بوجود الله، والمنكر لوجود الله، لأنها لا تعني الإلحاد، ولا تعني الإيمان، وإنما تعني عدم تحكيم الدين في شؤون الدولة، وهذا لا يؤثر في سلوك من يعتقد عقيدة التطور المادي. ومن هنا نجد أن العقيدة الشيوعية لم تؤثر في المجتمعات الرأسمالية، ولم تحدث فيها أي تغيير. أما مقاومة الشيوعية للرأسمالية، فقد بدأت بأفكار كارل ماركس ومن أتى بعده من فلاسفة الشيوعيين، فأوجدت من يعتنقها من الأفراد والجماعات، ولكنها لم تستطع أن تجعل، بمجرد الدراسة والبحث، شعوباً برمتها تعتنقها. وفوق ذلك فإن طريقتها في تجسيدها بكيان، أي بدولة شيوعية، كانت طريقة خطأ، وطريقة خيالية، فهي خطأ من ناحية جعلها إيجاد الدولة طريقة للوصول إلى إلغائها كلياً، وهي خيالية لأنها تريد جعل الثورة عالمية، تبدأ بالشعوب المتقدمة صناعياً ثم تعم العالم؛ ولذلك اضطر لينين لمخالفتها بحجة تفسيرها، فأوجد الدولة الشيوعية في روسيا، وكانت في ذلك الوقت متأخرة من ناحية صناعية عن أوروبا، وأوجدها في روسيا وحدها، ثم بعد ثلث قرن جاء خلفاء لينين ليتحالفوا مع أكبر دولة استعمارية، نعني أمريكا، أي تحالفوا مع الاستعمار. وكانت نتيجة هذا التحالف أن سقطت الشيوعية نهائياً، وزالت الدولة الشيوعية الرئيسية من الوجود، وفشلت بذلك في تحقيق أهدافها؛ لذلك كان لا بد من البحث عن علاج آخر لمقاومة الرأسمالية والقضاء على الاستعمار، ولا يوجد غير الإسلام الذي يملك القدرة على ذلك، بل إنه العلاج الوحيد لإزالة الاستعمار وهدم الرأسمالية، وعلاجه يقوم على أساس عرض الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة في ميدان النقاش العالمي، وإدخالها إلى ميثاق الجماعة الدولية القائمة على تنفيذ العرف الدولي بالرضا والاختيار، فهذا النقاش العالمي للفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، هو الذي يغير المفاهيم، ويزيل المفاهيم المغلوطة، ويصحح العرف الدولي. فالاستعمار وجهة نظر معينة في الحياة، ولن يقضى عليه ما لم تغير وجهة النظر هذه. صحيح أن الرأي العام الدولي الذي وجد لدى العالم ضد الاستعمار قد أثر عليه، ولكنه لم يقض عليه، ولم يضعف وجوده، وكل الذي حصل هو تغيير في أسلوبه. والبلاد التي استعمرت في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لا تزال مستعمرات، وإن كانت قد وضعت في أسلوب استقلالات. ولن تتحرر هذه المستعمرات إلا بالثورات، والحروب المحلية، والدولية. ولكن ما دامت الدول الكبرى الموجودة في العالم تعتنق الاستعمار كفكرة، وتسخر قواها من أجله، فإنه لا سبيل لإزالة الاستعمار من العالم، إلا بإزالة فكرته من نفوس معتنقيها، بوصفها وجهة نظر لهم في الحياة. صحيح أنه يجب أن يقاوم الاستعمار مقاومة مادية، وأن يستمر الرأي العام ضده، وأن تضاعف الجهود في سبيل ذلك، ولكن هذا ليس العلاج الناجع، والعلاج الناجع إنما هو عرض الإسلام كفكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة في ميدان النقاش العالمي، تتناولها جميع الشعوب والأمم، وتوضع دولياً محل بحث ونقاش بين الدول جميعها، وخاصة في الجماعة الدولية. هذا وحده هو العلاج الناجع للاستعمار، ولا يمكن تطبيق ذلك عملياً إلا بوجود الدولة الإسلامية القوية في المسرح الدولي.
عن كتاب مفاهيم سياسية لحزب التحرير
رأيك في الموضوع